الخميس 19 جمادي الأولى 1446
قادعة في نفي الصحة ونفي الكمال
الثلاثاء 31 يناير 2023 2:00 مساءاً
1826 مشاهدة
مشاركة

الأصل في نفي الشارع أن يكون نفيا للوجود، فإن تعذر فهو نفي للصحة، فإن تعذر فهو نفي للكمال.

مثال نفي الوجود: نفي الإله مع الله، وأيضا إذا قلنا: لا خالق إلا الله، فهذا نفي وجود.

ومثال نفي الصحة: 

1- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:(لا صلاة بغير وضوء) فهنا لا يمكن حمل هذا النفي على نفي الوجود، لأنه قد يصلي إنسان بغير وضوء، فيحمل النفي على نفي الصحة.

2- قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس) فهو هنا لنفي الصحة، فلا تصح الصلاة في أوقات النهي، إلا صلاة الفريضة، كالمقضية مثلا، والصلاة التي لها سبب من النوافل على القول الراجح.

3- قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)

4- في العقود قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا نكاح إلا بولي) فهو نفي للصحة.

5- حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) فهذا نفي للصحة، ولا نحمله على نفي الوجود؛ لأنه قد يوجد من يصلي خلف الصف منفردًا، ولا نحمله على نفي الكمال، لأنه ليس عندنا دليل على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، بل قد جاء حديث وابصة بن معبد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد) [حم 17539، د 682، ت 230، جه 1004، صححه ابن حبان وحسنه الترمذي، ونقل الحافظ في الفتح تصحيحه عن أحمد وابن خزيمة، وصححه الألباني] وهذا تأكيد لنفي الصحة.

وقال بعض العلماء إنه محمول على نفي الكمال، فلو صلى خلف الصف بلا عذر فصلاته صحيحة، واستدلوا لذلك بدليلين:

الدليل الأول: صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصف، وما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال.

الدليل الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدار ابن عباس رضي الله عنهما من اليسار إلى اليمين، وهو في حال رجوعه من الوراء انفرد عن الصف. 

ويجاب عن ذلك: بأن المرأة صلَّت خلف الصف وحدها؛ لأنها ليست من أهل المصافة للرجال، بل كلما بعدت عن الرجال فهو أفضل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (خير صفوف النساء آخرها).

وأما قضية ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه لم ينفرد خلف الصف، بل غاية ما هنالك انفراده لحظة مروره لكمال الصلاة.

وظاهر الحديث أنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف ولو لعذر، وقد ذهب إليه بعض العلماء، وقالوا: صلاة الإنسان منفردًا خلف الصف باطلة، ولو كان لعذر، واختار شيخ الإسلام، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وشيخنا رحمهم الله أنه إذا كان لعذر فلا بأس، لأن قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يدل على وجوب المصافة، والوجوب يسقط بالعجز.

ومثال نفي الكمال: 

1- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:(من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر) فهنا لا يمكن حمل النفي على نفي الوجود، وأيضا لا يمكن حمل النفي على نفي الصحة، لأنه قد جاء دليل يدل على صحة صلاة المنفرد، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:(صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وهذا يدل على أن في صلاة الفذ فضلا، وما لا يصح فلا فضيلة فيه، فيحمل النفي على نفي الكمال.

2- قوله -صلى الله عليه وسلم- (لا صلاة بحضرة طعام) فهذا نفي للكمال؛ لأن الصلاة موجودة والصحة ثابتة، لأننا نعلم أن هذا الرجل أتى بالصلاة على جميع الشروط والأركان والواجبات، ولم يخل بشيء، لكن لما كانت حضرة الطعام تشغله عن صلاته كانت صلاته غير كاملة، ولا نقول: إنه لنفي الصحة؛ لأن نفي الصحة يكون لفوات شرط أو لوجود مانع، وهذا غاية ما فيه أنه ينشغل القلب به، وانشغال القلب لا يبطل الصلاة، بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أن الشيطان يأتي الإنسان في صلاته ويقول (اذكر كذا، اذكر كذا حتى لا يدري ما صلَّى) فدل على أن انشغال الفكر لا يوجب بطلان الصلاة.

وهذا الكمال المنفي هو الكمال الواجب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شيء من واجباته، فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز وجل، فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات التي ليست بواجبة، وأما ما يقوله بعض الناس: إن هذا لنفي الكمال ... فالجواب: نعم هو لنفي الكمال، لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات؟ فأما الأول فحق، وأما الثاني فباطل، لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسوله قط، وليس بحق، فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه" [الفتاوى 22/530]

وقال أيضا: "فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة، لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج، لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل، فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ولا رسوله، ولا يجوز أن يقع، فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئا، لم يجز أن يقال ما فعله لا حقيقة ولا مجازا، فإذا قال للأعرابي المسيء صلاته: (ارجع فصلي فإنك لم تصل)، وقال لمن صلى خلف الصف - وقد أمره بالإعادة:(لا صلاة لفذ خلف الصف) كان لترك واجب..." [الإيمان ص 11، 12].