الراجح الماء الطهور إذا خالطه طاهر فإنه يبقى طهورا، ما دام يصح أن يطلق عليه أنه ماء.
وتفصيل ذلك أنه قد يخالط الماء شيء طاهر، وقد يتغير الماء بسبب هذا الطاهر وقد لا يتغير، فهذا على أقسام :
أولا: إذا اختلط الماء بطاهر ولم يتغير فهو طهور بالاتفاق.
ثانيا: إذا تغير الماء بمجاورة طاهر، والمجاورة يعني أن لا يمازج الماء شيء، كما لو اختلط بدهن، أو شيء من الطاهرات الصلبة كالعود والكافور، فهو طهور عند الجمهور، لأن هذا التغيير إنما هو من جهة المجاورة فلا يضر.
ثالثا: إذا تغير الماء بمخالطة طاهر لا يمكن الاحتراز منه كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء فهو طهور بالاتفاق، وكذا أوراق الشجر الذي يسقط في الماء أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه كالكبريت وغيره فهو طهور أيضا، لأنه يشق التحرز مما سبق.
رابعا: إذا تغير الماء بمخالطة طاهر يمكن الاحتراز عنه -كزعفران وصابون ونحوهما- ففيه خلاف بين العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو مذهب المالكية وقول عند الشافعية ورواية عن أحمد أنه طاهر غير مطهر، فيستعمل في العادات كالطبخ والشرب، ولا يستعمل في العبادات كالوضوء والغسل، واستدلوا بأنه ليس بماء مطلق، فلا يدخل في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء}، ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال (سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) [سبق تخريجه]، ووجه الدلالة أن سؤال الصحابي لم يكن عن طهارة ماء البحر، فإن طهارته متقررة ومعلومة، ولهذا جاء السؤال عن الطهورية، مما يدل على وجود ماء طاهر غير مطهر، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- استثنى ماء البحر.
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن تغير الماء بالملوحة الزائدة هو الذي جعل الصحابي يرتاب في حكمه، وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا الماء مع تغيره الزائد بالطهورية دليل على أن تغير الماء بطاهر لا يخرجه عن الطهورية ما لم يخرج عن اسم الماء.
القول الثاني: وهو القول الثاني عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد أنه يفرق بين ما يخالط الماء بغير ممازجة، وما يخالطه بممازجة، فالذي لا يمازج الماء لا يسلبه الطهورية، والذي يمازجه يجعله طاهرا غير مطهر، وهل يكره استعمال الماء المتغير بغير ممازجة؟ فيه قولان في مذهب الإمام أحمد، ووجه كراهة استعماله الخروج من الخلاف فيه، واستثنى الحنابلة هنا ما إذا خالط الماء ملح مائي، فإنه الملح المائي يختلط بالماء بممازجة، ومع ذلك لا يسلبه الطهورية وإن غير أحد أوصافه، لأنه شبيه بماء البحر، لكن هل يكره استعماله إن تغير بملح مائي؟ على قولين في المذهب، أما إذا تغير بملح غير مائي وهو الملح المعدني المستخرج من باطن الأرض فإنه يسلبه الطهورية عند الحنابلة.
وهذا القول أي التفريق بين ما يمازج الماء وبين ما لا يمازجه أضعف من القول الأول، لأنه لا وجه للتفريق بينهما، فكلاهما قد غير صفة الماء، ولا وجه للتفريق بين الممازج وغير الممازج.
القول الثالث: وهو مذهب الحنفية ورواية عن أحمد أنه طهور، وهو اختيار ابن قدامة، وقال إن هذا القول هو أكثر الروايات عن أحمد، وهو أيضا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والقول بأنه طهور هو الصواب، فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا، لأن الله تعالى قال {فلم تجدوا ماء} وهو نكرة في سياق النفى، فيعم كل ما هو ماء، ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع، ولا بين المتغير تغيرا أصليا أو طارئا، ولا بين المتغير تغيرا يمكن الاحتراز منه أو لا يمكن، ويدل لذلك ما يأتي:
1- أنه لو وكّله في شراء ماء، أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك، لم يفرق بين هذا وهذا، وهذا يدل على أن الكل داخل في جنس الماء.
2- أنه ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والبحر متغير الطعم تغيرا شديدا لشدة ملوحته، فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن ماءه طهور مع هذا التغير كان ما هو أخف ملوحة منه أولى أن يكون طهورا، وإن كان الملح وضع فيه قصدا، إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة.
2- أنه ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بغسل المحرم بماء وسدر، وأمر بغسل ابنته بماء وسدر، وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسدر، ومن المعلوم أن السدر لابد أن يغير الماء، فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به. [شرح الشيخ سلمان على البلوغ 1/116]
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ من قصعة فيها أثر العجين، ومن المعلوم أنه لابد في العادة من تغير الماء بذلك، لاسيما في آخر الأمر، إذا قل الماء وانحل العجين، ولذلك جاء في الحديث: (من ماء فيه أثر العجين) فلولا أن العجين أثر على الماء لقال (ماء فيه عجين)
4- أن المانعين مضطربون اضطرابا يدل على فساد أصل قولهم، فمنهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، ويقول: إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة، ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يسوي بينهما، ومنهم من يسوى بين الملحين: الجبلي والمائي، ومنهم من يفرق بينهما، وليس على شئ من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، فدل ذلك على ضعف هذا القول.