الجمعة 20 جمادي الأولى 1446
حكم صبغ الشعر بالسواد
الخميس 14 أكتوبر 2021 2:00 مساءاً
825 مشاهدة
مشاركة

اتفق الفقهاء على ما يأتي:

أولا: جواز استعمال الصبغ بالسواد في الحرب والجهاد، وقد نقل الاتفاق الحافظ ابن حجر.

ثانيا: تحريم استعمال الصبغ بالسواد للتلبيس والخداع، كأَنْ تفعله المرأة أو الرجل عند الخِطْبة تدليسا.

واختلف الفقهاء في الصبغ بالسواد في غير ذلك على أقوال:

القول الأول: الكراهة، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وقولٌ عند الحنفية والشافعية، ورجحه ابن القيم، واستدلوا بما يأتي:

1- ما جاء عن جَمْع من الصحابة أنهم كانوا يخضبون بالسواد ويُجوِّزونه، ومنهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث جاء عنه أنه قال: "اختضبوا بالسواد؛ فإنه آنس للنساء وهيبة للعدو"، وجاء عن عثمان أنه كان يخضب بالسواد، ومثله عن علي وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة والحسن والحسين رضي الله عنهم. [زاد المعاد 4/337]

2- حديث جابر -رضي الله عنه- أنه قال: (أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثَّغَامة -وهو نبات أبيض الزهر والثمر- بياضاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غَيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد) [م 2102]

وأقلُّ درجات النهي الكراهة، وعليه يُحمل الحديث جمعا بينه وبين عمل الصحابة -رضي الله عنه- وفهمهم. 

وقال بعض العلماء إن لفظة (واجتنبوا السواد) في الحديث: مدرجة، وليست من قوله -صلى الله عليه وسلم-، واستدلوا بأن مسلما روى هذا الحديث عن أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر إلى قوله: (غَيَّروا هذا بشيء) فحسب، وقد سأل زهير -كما في المسند- أبا الزبير هل قال جابر في حديثه: (جنبوه السواد)؟ فأنكر، وقال: لا. [حم 14231، م 2102]

وأجيب بأن حديث جابر هذا رواه ابن جريج وأيوب السختياني، وهما ثقتان عن أبي الزبير عنه، بزيادة قوله: (واجتنبوا السواد)، وزيادة الثقات الحفاظ مقبولة والأصل عدم الإدراج، وأما قول أبي الزبير: (لا) في جواب سؤال زهير: فمبني على أنه قد نسي هذه الزيادة، وكم من محدِّث قد نَسي حديثه بعدما أحدثه.

ورد الشيخ الدبيان ذلك فقال: "ليست العلة في الحديث إدراج لفظة: (وجنبوه السواد)، إنما علته تردد أبي الزبير، فتارة يثبتها، وتارة ينفيها، ولو كان أبو الزبير يشك في ثبوتها أو يتردد لقيل: من حفظ مقدم على من لم يحفظ، وإذا اختلف على الراوي فتارة يذكرها، وتارة ينفيها كان هذا سببا في إضعاف روايته، ولا أحمل على أحد من الرواة عن أبي الزبير، وإنما الحمل عليه هو. وأبو الزبير ليس بالمتقن" [موسوعة أحكام الطهارة 3/417]

وقال ابن كثير: "وإذا حدث ثقة، عن ثقة بحديث، فأنكر الشيخ سماعه بالكلية: فاختار ابن الصلاح أنه لا تقبل روايته عنه لجزمه بإنكاره، ولا يقدح ذلك في عدالة الراوي عنه فيما عداه، بخلاف ما إذا قال: لا أعرف هذا الحديث من سماعي، فإنه تقبل روايته عنه، وأما إذا نسيه فإن الجمهور يقبلونه" [مختصر علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث 1/310]

القول الثاني: التحريم، وهو قول عند الشافعية صَوّبه النووي رحمه الله وجماعة، واستدلوا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: (يكون قوم في آخر الزمان يَخْضِبون بهذا السواد كحواصل الحمام، لا يَرِيحون رائحة الجنة) [حم 2466، ن 5075، د 4212، وصححه الذهبي والعيني، وقال ابن مفلح "إسناده جيد"، ومثل ذلك قال العراقي، وقال ابن حجر: "إسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع"]

وأجيب من وجهين: 

الأول: أنه قد طَعَن في صحته جماعة، ومنهم ابن الجوزي، وقالوا إن مدار إسناده على عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري، قال أيوب السختياني: "والله إنه لغير ثقة"، وقال يحيى: "ليس بشيء"، وقال أحمد: "ليس بشيء، يُشبه المتروك"، وقال الدارقطني: "متروك".

ورد هذا الحافظ ابن حجر فقال في القول المسدد: "أخطأ ابن الجوزي، فإن عبد الكريم الذي هو في الإسناد هو ابن مالك الجزري الثقة المُخرَّج له في الصحيح" ا.هـ، لكن قال الحافظ في الفتح بعد ذكره للحديث: "إسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع" ا.هـ. 

والوجه الثاني: أن هذا الحديث لا يدل على التحريم، لأنه قد روي عن جماعة كثيرة من السلف أنهم كانوا يَصْبغون بالسواد، ولأنه كره لما فيه من التدليس، ولا يرقى ذلك إلى التحريم إذ لم يدلّس به، ولأنه قد يقال إن هذا من باب الخبر عن قوم هذه صفتهم.

ورجح الشيخ الطريفي وقفه على ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال -حفظه الله-: ولو صح فإنه لا يدل على التحريم، لأنه قوله (يخضبون بالسواد) هذا ذكر حال، كما في قوله (يتطاولون في البنيان) ونحو ذلك.

وأجيب عن ذلك بأنه لا فائدة من ذكر هذا الخبر إذا كان على معصية لم تعلم، فإن الحديث جاء في سياق الذم لهم، ولم يذكر صفة غير صبغهم بالسواد، والقاعدة أن الحكم إذا رتب على وصف فإنه يدل على أن الوصف علة في الحكم، كما قال تعالى {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} 

القول الثالث: الجواز، وهو قول عند الحنفية، وقال الحافظ ابن حجر: "ومنهم من فَرَّق ذلك بين الرجل والمرأة، فأجازه لها دون الرجل، واختاره الحليمي" [فتح الباري 10/355]، واستدلوا بما يأتي:

1- أن البخاري قد روى أحاديث تغيير الشيب ولم يذكر فيها اجتناب السواد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) [خ 3462، م 2103] 

وأجيب بأن زيادة مسلم تقتضي تقييد المطلق.

2- عن صهيب الرومي -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) [جه 3625، وضعفه الألباني]

وذهب الشيخ الطريفي إلى أن الصبغ بالسواد جائز، والأولى تركه، وقال إن الزيادة في حديث جابر في مسلم أكثر رواته يجعلونه مدرجا، ثم هو لا يدل على التحريم، بدليل الاقتران، فقد وقع في الحديث أمر ونهي، فالأمر في قوله (غيروا) والنهي (وجنبوه)، فلو قلنا بالتحريم في النهي للزم أن يكون الأمر للوجوب.

قلت: وقد يقال إن دلالة الاقتران هنا ضعيفة، فإن حديث "تداووا ولا تداووا بحرام" لا يدل على وجوب التداوي بدلالة الاقتران.