** اختلف العلماء في حكم قص الشارب، فجمهور أهل العلم على سنيته، وقد قال النووي: "متفق على أنه سنة" [المجموع 1/340]، وقال الظاهرية بالوجوب، واستدلوا بحديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- مرفوعا: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) [حم 18778، ت 2761، ن 13، وقال الحافظ: "سنده قوي"، وصححه الألباني]، وقال في الفروع: "وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم"، وقال العراقي: "المراد على تقدير ثبوته ليس على سنتنا وطريقتنا لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) فهذا هو المراد قطعا والله أعلم" [طرح التثريب 2/82]
والذي يظهر أن قص الشارب واجب، لا سيما مع التوقيت الوارد بأربعين يوما، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (وُقِّت -بالمبني لما لم يسم فاعله- لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة) [م 258]، وفي السنن التصريح برفع ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فعنه -رضي الله عنه- قال: (وقت لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) [حم 11823، د 4200، ن 14]
** اختلف العلماء في المستحب في قص الشارب على قولين:
القول الأول: أنه يستحب قص الشارب، وهو مذهب الحنابلة، قال الأثرم: رأيت الإمام أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل يأخذ شاربه أو يحفيه؟ أم كيف يأخذه؟ قال: إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه قصا فلا بأس، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (قصوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس) [حم 7092]
2- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قص شارب المغيرة بن شعبة على سواك، فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: (ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر بجَنْب -بفتح الجيم وسكون النون أي جنب شاة- فشوي، وأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه -من الطعام-، قال: فجاء بلال فآذنه بالصلاة، فألقى الشفرة وقال: ما له تربت يداه -أي لتعجل بلال وعدم انتظار النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ من الطعام- وقام يصلي)، زاد الأنباري (وكان شاربي وفَى -على وزن رمى أي كثر وطال- فقصه لي على سواك أو قال أقصه لك على سواك) [د 188 وصححه الألباني] ووجه الدلالة أن القص على سواك فيه أمر زائد عن مجرد الحف.
3- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: (من الفطرة قص الشارب) [خ 5888] وهو في مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- بلفظ (عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -أي الاستنجاء-) قال زكرياء قال مصعب (ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) [م 261] وقد أعِل الحديث بسبب مصعب بن شيبة، فأعله الإمام أحمد والنسائي والدارقطني وابن القطان، وقال النسائي: مصعب منكر الحديث، وقال ابن منده: تركه البخاري فلم يخرجه وهو حديث معلول.
وقال الحافظ ابن حجر: "حديث عشر من السنة وعد منها المضمضة والاستنشاق، مسلم من حديث عائشة وأبو داود من حديث عمار بلفظ عشر من الفطرة، وصححه بن السكن وهو معلول" [التلخيص الحبير 1/77]
وقال الزيلعي: "وهذا الحديث وإن كان مسلم أخرجه في صحيحه ففيه علتان، ذكرهما الشيخ تقي الدين في الإمام وعزاهما لابن منده: إحداهما: الكلام في مصعب بن شيبة ... الثانية: أن سليمان التيمي رواه عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير مرسلا" [نصب الراية 1/76]
واعلم أن انتقاص الماء يراد به الاستنجاء كما فسره وكيع، قال المناوي: "بقاف وصاد مهملة على الأشهر كناية عن الاستنجاء بالماء أو نضح الفرج به، لأن انتقاص الماء المطهر لازم له، وقيل معناه انتقاص البول بالماء؛ لأنه إذا غسل الذكر بعد بوله انقطع البول، لأن في الماء خاصية قطع البول، فالمصدر على الأول مضاف للفاعل، وعلى الثاني للمفعول، وعليه فالمراد بالماء البول، وروي بالفاء وهو نضح الماء على داخل إزاره بعد الطهر دفعا للوسواس، قال النووي: والصواب الأول" [فيض القدير 4/316]، ونقل السيوطي عن الزمخشري قوله: "انتقاص الماء أن يغسل مذاكيره ليرتد البول، فإن أريد بالماء البول، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، وإن أريد به الماء الذي يغسل به فيكون مضافا إلى الفاعل على معنى التعدية، والانتقاص يكون متعديا ولازما" [عقود الزبرجد على مسند أحمد 3/250]
5- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس) [م 260]
6- وقال إبراهيم بن محمد بن حاطب: (رأيت ابن عمر يحفي شاربه كأنه ينتفه)
القول الثاني: أنه يستحب حفه لا قصه، فيأخذ من شاربه حتى تبدو شفته وهو الإطار، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، بل قال ابن القاسم عنه: "إحفاء الشارب -يعني جزه- وحلقه عندي مثلة"، واستدلوا بما يأتي:
1- (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) [ت 2761، من حديث زيد بن أرقم، وصححه الألباني] ووجه الدلالة قوله (من) ولم يقل (شاربه)، ولكن قوله (من) محتمل لكلا الوصفين، أي الحف والجز، لأن كليهما لا يذهبان الشارب بالكلية، و (من) تخرج الحلق فليست من الشارب، وإنما كله.
2- (خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب) [خ 5891 من حديث ابن عمر]
3- قال مالك: (وكان عمر بن الخطاب إذا كربه أمر نفخ فجعل رجله بردائه وهو يفتل شاربه)
4- قال عمر بن عبد العزيز: السنة في الشارب الإطار.
أما حلق الشارب فهو بدعة، كما قال الإمام مالك: "أشهد في حلق الشارب أنه بدعة، وأرى أن يوجع ضربا من فعله"، وقال الطحاوي: "الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد"، وقد نسب الحلق إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- وبعض التابعين، وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يحفي شاربه كأنه ينتفه، وقال بعضهم حتى يرى بياض الجلد. [زاد المعاد 1/187-182، فتح الباري 10/346-349، المجموع 1/340]