الجمعة 20 جمادي الأولى 1446
الترتيب والموالاة
الإثنين 07 مارس 2022 2:00 مساءاً
656 مشاهدة
مشاركة

الترتيب والموالاة 

** هل يجب الترتيب في الوضوء؟ فيه قولان لأهل العلم:

القول الأول: أن الترتيب واجب، وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية، واختيار ابن القيم واستدلوا بأدلة منها:

1- آية المائدة، والاستدلال بها من وجوه: 

الأول: أن الله ذكرها مرتبة فنأتي بها مرتبة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (أبدأ بما بدأ الله به).

الثاني: أنها جواب لشرط وما كان جوابا لشرط فيجب أن نأتي به كما جاء.

الثالث: أن فيه إدخالا لممسوح بين مغسول، وهذا خلاف البلاغة إلا لغرض، ولا غرض هنا إلا مراعاة الترتيب.

2- أن الذين رووا صفة وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكروا سوى الترتيب، مما يدل على وجوبه، ولهذا قال ابن القيم: "وكذلك كان وضوءه مرتبا متواليا، لم يخل به مرة واحدة" [زاد المعاد 1/187]

القول الثاني: وهو مذهب الحنفية والمالكية أن الترتيب غير واجب واستدلوا بما يأتي:

1- حديث المقدام بن معدي كرب الكندي قال: (أتيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوَضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا) [حم 16737، وفيه عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي: مقبول] والحديث قال عنه الشوكاني: "إسناده صالح"، وحسنه النووي وابن حجر وابن الملقن والألباني.

ولكن الجواب عن هذا الحديث من وجوه:

الأول: أنه شاذ لمخالفته لسائر الأحاديث الواصفة لوضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا أقوى الأجوبة التي أجيب بها، ومما يدل عليه أن أبا داود روى الحديث عن الإمام أحمد بنفس سند المسند، عن المقدام، وقد ذكره الوضوء فيه مرتبا [د 121، وصححه الألباني]، ولهذا قال الشيخ الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "حديث ضعيف لنكارة فيه، فالصحيح أن المضمضة والاستنشاق إنما تكونان عقب غسل اليدين"، ورجح شذوذه الشيخ عبد العزيز الراجحي.

الثاني: أن يقال ثم هنا لا تعني الترتيب، وثم في اللغة قد لا تقتضي الترتيب، كما قال تعالى {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل مها زوجها} أي وجعل منها، كما قال في الآية الأخرى.

الثالث: أن هذا على القول بأن المضمضة والاستنشاق سنة لا فرض.

الرابع: أن هذا على القول بأنه يجوز تأخير المضمضة والاستنشاق عن جميع أعضاء الوضوء مع وجوبهما، وهذا رواية عن الإمام أحمد ذكرها شيخ الإسلام في شرح العمدة [1/180] وعللها بأن وجوبهما أي المضمضة والاستنشاق لم يعلما بنص القرآن والترتيب إنما يجب بين الأعضاء المذكورة في القرآن ليبدأ بما بدأ الله به.

2- حديث الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتينا، فحدثتنا أنه قال: اسكبي لي وَضوءا، فذكرت وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت فيه: فغسل كفيه ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، ومضمض واستنشق مرة، ووضأ يديه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه مرتين بمؤخر رأسه ثم بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا) [ت 33، د 126، وحسنه الألباني] 

والجواب عن هذا:

أولا: أن الحديث فيه مقال، ففيه عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق في حديثه لين، وقد قال الحافظ: "له عنها طرق وألفاظ مدارها على عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال" [التلخيص الحبير 1/84]، وقد سبق ذكر ما ذكره صاحب تحفة الأحوذي في قولها: (بدأ بمؤخر رأسه).

ثانيا: أن الواو لا تستلزم الترتيب، وعلى فرض أنها تستلزم الترتيب، فالترتيب ليس بواجب في العضو الواحد.

3- عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت" [قط 293، هق 406، قال البيهقي: "وهو منقطع"] يعني في الوضوء.

والجواب عن هذا من وجهين:

الأول: أنه رأي صحابي مخالف للأحاديث الصريحة.

الثاني: أن مقصوده ما أبالي هل بدأت باليمين أو بدأت بالشمال، والبداءة باليمين أو بالشمال سنة، لأن ذلك عضو واحد، ويدل لذلك أنه -رضي الله عنه- قال: "ما أبالي لو بدأت بالشمال قبل اليمين إذا توضأت" [هق 406].

القول الثالث: أن الترتيب واجب، لكن يسقط بالنسيان، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله: "وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد: أنه غير واجب. قلت: هذه أخذت من نصه في القبضة للاستنشاق، فلو أخر غسلها إلى ما بعد غسل الرجلين، ففيه عن أحمد روايتان منصوصتان. فإنه قال في إحدى الروايتين إنه لو نسيهما حتى صلى، تمضمض واستنشق وأعاد الصلاة ولم يعد الوضوء؛ لما في السنن عن المقدام بن معديكرب (أنه أتي بوضوء، فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق)

فغير أبي الخطاب فرق بينهما وبين غيرهما بأن الترتيب إنما يجب فيما ذكر في القرآن، وهما ليسا في القرآن، وأبو الخطاب ومن تبعه رأوا هذا فرقا ضعيفا، فإن الأنف والفم لو لم يكونا من الوجه لما وجب غسلهما ... فتسوية أبي الخطاب أقوى.

وعلى هذا، فأحمد إنما نص على من ترك ذلك ناسيا ... وكذلك الحديث المرفوع فإن جميع من نقل وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبروا أنه بدأ بهما، وهذا حكى فعلا واحدا، فلا يمكن الجزم بأنه كان متعمدا. وحينئذ فليس في تأخيرهما عمدا سنة بل السنة في النسيان ... فالناسي معذور بكل حال، بخلاف المتعمد، وهو القول الثالث، وهو الفرق بين المتعمد لتنكيس الوضوء وبين المعذور بنسيان أو جهل، وهو أرجح الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة وجمهور العلماء، وهو الموافق لأصول المذهب في غير هذا الموضع، وهو المنصوص عن أحمد في الصورة التي خرج منها أبو الخطاب." [مجموع الفتاوى 21/407]

قال شيخنا رحمه الله: "هل يسقط الترتيب بالجهل أو النسيان على القول بأنه فرض؟

قال بعض العلماء: يسقط بالجهل والنسيان لأنهما عذر، وإذا كان الترتيب بين الصلوات المقضيات يسقط بالنسيان فهذا مثله.

وقال آخرون: لا يسقط بالنسيان؛ لأنه فرض، والفرض لا يسقط بالنسيان، والقياس على قضاء الصلوات فيه نظر؛ لأن كل صلاة عبادة مستقلة، ولكن الوضوء عبادة واحدة.

ونظير اختلاف الترتيب في الوضوء اختلاف الترتيب في ركوع الصلاة وسجودها، فلو سجد قبل الركوع ناسيا فإن السجود لا يصح؛ لوقوعه قبل محله؛ ولهذا فالقول بأن الترتيب يسقط بالنسيان في النفس منه شيء.

نعم لو فرض أن رجلا جاهلا في بادية ومنذ نشأته وهو يتوضأ؛ فيغسل الوجه واليدين والرجلين ثم يمسح الرأس، فهنا قد يتوجه القول بأنه يعذر بجهله؛ كما عذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أناسا كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال." [الشرح الممتع 1/190]

** الترتيب الواجب هو الترتيب بين الأعضاء الأربعة، أما الترتيب في العضو نفسه فهو مستحب، لهذا أجمع العلماء كما سبق على استحباب التيامن، ومثله لو قدم الاستنشاق على المضمضمة، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، وذهب بعض العلماء إلى وجوب الترتيب بين المضممة والاستنشاق والأقرب هو الأول.

** الموالاة هي أن لا يؤخر غسل عضو حتى يجف الذي قبله، وهو مقيد بالزمان المعتدل، لأنه في ففي الشتاء يتأخر الجفاف وفي الصيف يكون سريعا، وضبطه جماعة من العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد بالعرف، والأخذ بالعرف أقرب، لأن من الناس من تكون مساماته شديدة الامتصاص للماء، ومن الناس عكس ذلك، ثم إن ذلك يختلف باختلاف الطقس من حرارة وبرودة، وإن كان العرف ليس منضبطا كثيرا لكن انضباطه بلا شك أكثر من اعتبار نشف العضو السابق والله أعلم.

** هل تجب الموالاة في الوضوء؟ فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أن الموالاة واجبة، وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه ومالك في رواية عنه، واستدلوا بما يأتي:

1- حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (أن رجلا توضأ فترك موضع ظُفُر على قدمه، فأبصره النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى) [م 243، وأعل الحديث ابن القطان وابن عمار الشهيد والبزار بأنه من رواية أبي الزبير عن جابر، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، ينظر الأحاديث المنتقدة على الصحيحين 1/92] 

2- حديث خالد بن مَعْدَان عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لُمعَةٌ قدرُ الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد الوضوء والصلاة) [حم 15069، د 175، وفيه بقية بن الوليد، وسئل الإمام أحمد عنه فقال: إسناده جيد، وصححه الحاكم وابن القيم، وضعفه ابن حزم والبيهقي والنووي، والحديث له شواهد منها حديث مسلم السابق] 

قال شيخنا رحمه الله: "الفرق بين اللفظين -أي لفظ حديث مسلم وحديث أحمد- إذا لم نحمل أحدهما على الآخر أن الأمر بإحسان الوضوء: أي إتمام ما نقص منه، وهذا يقتضي غسل ما ترك دون ما سبق، ويمكن حمل رواية مسلم على رواية أحمد، فلا بد من إعادة الوضوء، ورواية أحمد سندها جيد قاله أحمد، وقال ابن كثير حديث صحيح" [الشرح الممتع 1/155-156]

3- ظاهر آية المائدة وظاهر فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنهما يدلان على الموالاة.

القول الثاني: أن الموالاة غير واجبة، وهذا مذهب أبي حنيفة وابن حزم، واستدلوا بما يأتي:

1- عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه بال في السوق، ثم توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد فمسح على خفيه ثم صلى عليها" [ك 75 وسنده صحيح].

والجواب عن هذا من وجوه:

الأول: أن الرواية لا تدل على أن الفاصل طويل، فالفاصل بين كونه مسح رأسه ثم دخل المسجد قد يكون وضوءه في مكان قريب من المسجد.

الثاني: أن يقال أن هذا لحاجة كخشية فوات صلاة الجنازة، وقد ذكر بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية أن من خشي فوات الجنازة ونحوها فإن له أن يتيمم ويصلي عليها، فلعل ابن عمر ترك الموالاة خشية فوات صلاة الجنازة.

الثالث: أن هذا فعل صحابي.

2- أن الله تعالى ذكر صفة الوضوء، وعطف الأعضاء بالواو، وهي لا تفيد التعقيب.

القول الثالث: أن الموالاة واجبة إلا لعذر، وهذا القول هو رواية مشهورة في مذهب الإمام مالك وهو أيضا رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك لأنه أشار إلى أن كثيرا من الواجبات الشرعية التي يطلب فيها الموالاة تسقط فيها الموالاة للعذر، كما هو الحال في الطواف والسعي، بل حتى في الصلاة كما في صلاة الخوف فإنه يفصل بين أجزاء الصلاة فيصلي الركعة الأولى وقد يفصل بينها وبين الثانية، بقتال وكر وفر، وما أشبه ذلك، بل قد يضطر للفصل بين الركن والآخر، فقال إن الوضوء من هذا القبيل، فيجوز للإنسان أن يتعمد الإخلال بالموالاة لإنقاذ مسلم من هلكة، أو لأمر بمعروف أو نهي عن منكر، وهذا القول وسط بين القولين.

والقول الأول أقرب لأن الواجبات لا تسقط إلا بالإتيان بها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر الرجل أن يعيد صلاته لم يستفصل منه، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.