** الجبيرة في الأصل ما يُجَبر به الكسر، والمراد بها في عرف الفقهاء : ما يوضع على موضع الطهارة لحاجة، مثل الجبس الذي يكون على الكسر، أو اللزقة التي تكون على الجرح، أو على ألم في الظَّهر أو ما أشبه ذلك .
** اختلف العلماء في حكم الجبيرة على أقوال:
القول الأول: أنه لا يمسح عليها ولا يتيمم لها، وهو اختيار ابن حزم، واستدل بأنه عجز عن غسل هذا العضو فسقط كسائر الواجبات، وهذا أضعف الأقوال لأنه يسقط الغسل بالكلية ولا يجعل له بدلا، مع أن العضو موجود، وليس بمفقود حتى يسقط فرضه.
القول الثاني: أنه يجمع بين المسح والتيمم، وهو قول الشافعي في الأم وعليه جمهور أصحابه، واستدل بحديث جابر -رضي الله عنه- الذي سيأتي في أدلة أصحاب القول الرابع، وهو حديث ضعيف والزيادة فيه منكرة.
وهذا القول ضعيف لأن فيه إيجاب طهارتين لعضو واحد، وهو مخالف لقواعد الشرع.
القول الثالث: أنه يتيمم لذلك العضو ولا يمسح عليه، وهو قول للشافعية، وعلى هذا فيغسل أعضاء الطهارة ويتيمم عن الموضع الذي فيه الجبيرة، واستدلوا بما يأتي:
1- قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} والجرح نوع من المرض، فجعل الله فرضه التيمم.
2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن رجلا أجنب في شتاء، فسأل، فأُمر بالغسل فمات، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما لهم قتلوه قتلهم الله -ثلاثا-، قد جعل الله الصعيد أو التيمم طهورا) [حب 1314، خز 1/138، كم 1/270، هق 1/226، وقال الحافظ: "والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، وقواه من صحح حديثه هذا، وله شاهد ضعيف جدا من رواية عطية عن أبي سعيد الخدري رواه الدارقطني" التلخيص الحبير 1/261، وحسنه الدبيان بناء على توثيق يحيى بن معين للوليد بن عبيد الله، وأن توثيقه مقابل لتضعيف الدارقطني له، لكن الدارقطني لم ينفرد بتضعيفه، فقد ضعفه البيهقي كما في السنن الكبرى 6/10، وقوى الحديث الألباني في الثمر المستطاب]
3- وقد روى الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس يخبر: (أن رجلا أصابه جرح في رأسه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أصابه احتلام فأمر بالاغتسال فاغتسل فكُزَّ -يعني انقبض جسمه من شدة البرد- فمات، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: قتلوه قتلهم الله، أولم يكن شفاء العي السؤال، قال عطاء: وبلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجراح) [جه 572، دمي 752، كم 1/285، 286، هق 1/227، قط 1/90، واختلف فيه عن الأوزاعي، فأكثرهم رواه عن الأوزاعي قال: بلغني عن عطاء، وقد رجح الدبيان أن الراجح في رواية الأوزاعي أنها منقطعة، وقد بينت روايات أخرى الواسطة بين الأوزاعي وعطاء، وهو إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف الحديث، فالحديث لا يصح]
وأجيب بأن الرواية الأولى ليس فيها شاهد على أنه يتيمم عن الجبيرة، أو عن عضو، وإنما فيه أنه يتيمم عند تعذر استعمال الماء في الغسل، والرواية الثانية لم يذكر فيها التيمم إلا منقطعا، كما أنها محتملة أن يكون الرجل قد مات من البرد لا من الجرح الذي أصابه الماء، فيعود الأمر للترخيص بالتمييم عند تعذر استعمال الماء في الغسل.
4- أن أحاديث المسح ضعيفة، ولا يقاس المسح على الجبيرة على المسح على الخفين.
5- أن الصحابة كانوا أهل جهاد، وكانت تكثر فيهم الجروح والقروح، ولو كان المسح على الجبيرة مشروعا لجاء مبينا في السنة بيانا واضحا.
6- أن الجنب قد رخص له إذا خاف على نفسه الضرر من الاغتسال أن يتمم، فكذلك إذا خاف على جرحه، ولهذا لم نقل للجنب: امسح بدنك بالماء لأنه أولى من التيمم.
7- أن هذا قول ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: "إذا أجنب الرجل وبه الجراحة والجدري فخاف على نفسه إن هو اغتسل، قال: يتيمم بالصعيد" [مصنف ابن أبي شيبة 1/124، وحسنه الدبيان]
وليس فيه دليل على محل النزاع، وهو التمييم عن العضو إن عجز عن غسله، بل فيه أن التيمم يجزيء عن الغسل عند خوف الضرر من الاغتسال.
القول الرابع: أنه يجب المسح على الجبيرة، وهو مذهب المالكية والقول القديم للشافعي وهو المشهور عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، بل قال ابن المنذر أن المسح على الجبائر: " كالإجماع من أهل العلم" [مجموع الفتاوى 21/176، 453، الأوسط في السنن 2/24]، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث صاحب الشجة، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما كان يكفيه أن يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها) وهذا في الحدث الأكبر، ولفظه عند أبي داود عن الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر قال: (خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر، أو يعصب -شك موسى- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده) [د 336، هق 1/227، 228، قط 1/189]
وقد سبق حديث ابن عباس -رضي الله عنه- في قصة مشابهة في أدلة القول الثالث.
وهذه الروايات ضعيفة، وخلاصة ما قيل فيها:
أولا: أن الحديث من مسند جابر -رضي الله عنه- منكر، والمعروف أن الحديث من مسند ابن عباس -رضي الله عنهما-
ثانيا: أن المسح على الجبيرة في قوله (يعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) هذه زيادة منكرة، وقد تفرد بها الزبير بن خُرَيْق وهو ضعيف، ومن حسّن الحديث من العلماء، ضعف جملة المسح على الجبيرة لانفراد ابن خريق.
ثالثا: أن حديث جابر -رضي الله عنه- لو صح، فإن الجمهور لا يقولون بدلالته لأن الحديث جمع بين المسح والتيمم، وهم لا يرون مشروعية الجمع بينهما بل يقولون بالمسح فقط. [انظر موسوعة الدبيان: المسح على الخفين ص 597]
2- عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: (انكسرت إحدى زندي فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرني أن أمسح على الجبائر) [جه 657، وقال الألباني: "ضعيف جدا"، وقال الدبيان: "ضعيف جدا بل موضوع"، والحديث فيه عمرو الواسطي، قال فيه الإمام أحمد: "متروك الحديث ليس يسوى شيئا"]
3- أن هذا العضو ستر بما يسوغ ستره شرعا فجاز المسح عليه كالخفين.
وهذا فيه نظر، لأن الفروق بين الجبيرة والخف كثيرة، ولهذا لم يشترطوا وضع الجبيرة على وضوء وعللوا ذلك بأنها ليست كالخفين، وقد يقال إن المراد هنا قياس الأولوية.
4- أن المسح ورد التعبد به في الجملة فإذا عجزنا عن الغسل انتقلنا إلى المسح.
5- إذا دار الأمر بين أن يتيمم للعضو وبين أن يمسح عليه فالمسح أقرب لأنه طهارة بالماء وذلك طهارة بالتراب، ولأن التيمم قد يكون في غير محل الجبيرة؛ لأن التيمم في الوجه واليدين إلى الرسغين فقط، والجبيرة قد تكون مثلا في الذراع بخلاف المسح فإنه يكون في محل الجبيرة. [مجموع الفتاوى 21/453]
5- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يقول: "من كان به جرح معصوب عليه توضأ ومسح على العصابة، ويغسل ما حول العصابة، وإن لم يكن عليه عصاب مسح ما حوله"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة: "وقد روي ذلك عن جماعة من التابعين، ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي خلافه" [رواه ابن المنذر في الأوسط 2/24، وعبد الرزاق في مصنفه 1/233 رقم 1427، هق 1/348، وصححه البيهقي، وانظر شرح العمدة لشيخ الإسلام 1/285]
وبالنظر إلى أدلة المسألة فإنها كلها فيها مقال، والأقرب إلى القواعد مذهب الجمهور، وعلى هذا فإن الجرح ونحوه إما أن يكون مكشوفا أو مستورا، فإن كان مكشوفا فالواجب غسله بالماء، فإن تعذر فالمسح، فإن تعذر المسح فالتيمم، وإن كان مستورا بما يسوغ ستره، فليس فيه إلا المسح فقط، فإن ضره المسح مع كونه مستورا فيعدل إلى التيمم، كما لو كان مكشوفا.
وذهب بعض العلماء إلى أن الجرح إذا كان مكشوفا وتعذر غسله بالماء فإنه يتيمم عنه ولا يمسح عليه. [موسوعة الدبيان: المسح على الخفين ص 641]
** هل يشترط لوضع الجبيرة الطهارة؟ ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا تشترط الطهارة للجبيرة، وذهب الشافعية والحنابلة إلى اشتراطها، فإن لبسها على غير طهارة، فإن كان لا يضره نزعها وجب نزعها، وإن كان يضره تيمم ولم يمسح عند الحنابلة، وعند الشافعية يمسح مع الإثم ويعيد الصلاة إذا بريء، والصحيح أنه لا تشترط الطهارة، لأن الجبيرة ليست كالخفين فبينهما فروق كثيرة منها:
1- أن المسح على الجبيرة واجب، أما المسح على الخفين فجائز.
2- أن الجبيرة لا تختص بعضو معين، والخف يختص بالرجل، وكذا العمامة والخمار يختصان بالرأس.
3- أن المسح على الجبيرة يكون في الطهارة الصغرى والكبرى، وباقي الممسوحات لا يمسح عليها إلا في الطهارة الصغرى.
4- أن المسح على الجبيرة غير مؤقت، وباقي الممسوحات مؤقت إلا العمامة.
5- أن الجبيرة لا تشترط لها الطهارة، وبقية الممسوحات لا تلبس إلا على طهارة، على خلاف بين أهل العلم في اشتراط الطهارة بالنسبة للعمامة.
6- أن الجبيرة تستوعب بالمسح، بخلاف الخف فإنه يمسح أعلاه.
7- أن الجبيرة يلفها الإنسان بدون اختيار سابق لها، فإن الجرح يقع في الغالب فجأة، بخلاف الخف. [الفتاوى الكبرى 1/314]
** وهل تبطل الطهارة بنزع الجبيرة أو ببرء ما تحتها؟ الراجح أنها لا تبطل لعدم الدليل على البطلان.