** اختلف العلماء في مس الذكر هل هو ناقض للوضوء أو ليس بناقض، على أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور أن مس الذكر ينقض الوضوء، واستثنى الإمام الأوزعي وهو رواية عن الإمام أحمد مس ذكر الصغير، فقالوا: لا ينقض الوضوء خلافا للجمهور، ومذهب الحنابلة أن الذي ينقض مس الذكر بظاهر أو باطن الكف، والجمهور على أن النقض متعلق بمسه بباطن الكف فقط، لأنه هو الذي يطلق عليه المس، واستدل الجمهور بما يأتي:
1- حديث بُسرة بنت صفوان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من مس ذكره فليتوضأ) [حم 7036، د 181] وفي رواية: (من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) [حم 26751، ن 447، ت 82]، وفي رواية (من مس فرجه) [حم 26750، ن 444]، وعن بسرة بنت صفوان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ) [ن 445، وصححه الألباني].
وقد اختلف العلماء في حديث بسرة، ففي إسناده مروان بن الحكم، وقد قال ابن حبان: "عائذ بالله أن نحتج بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا"، وطعن فيه الذهبي، لكن روى له البخاري واحتج به مالك في الموطأ، والحديث صححه الإمام أحمد وابن عبد البر.
2- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء) [حم 8199، طص 110، الموارد 1/77]
والحديث في المسند: حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك عن أبيه ذكره عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا به، وفي سنده يزيد بن عبد الملك، وهو ضعيف، وقال فيه الإمام أحمد: عنده مناكير.
لكن تابعه نافع كما في معجم الطبراني الصغير: حدثنا أحمد بن عبد الله بن العباس الطائي حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبد الرحمن بن القاسم عن نافع بن أبي نعيم القاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا، ونافع قد وثقة ابن معين، لكن قال الإمام أحمد: كان يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشيء، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث.
والمتابعة التي في المعجم الصغير في إسنادها أحمد بن عبد الله بن العباس الطائي، وقد ذكره في تاريخ بغداد ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وفي إسنادها أيضا أحمد بن سعيد الهمداني، قال النسائي: ليس بقوي، ووثقة العجلي، وقال الذهبي لا بأس به، وقال الطبراني: "تفرد به أحمد بن سعيد"
وقد تابع أحمد الطائي كل من علي بن الحسين بن سليمان المعدل وعمران بن فضالة الشعيري، كما في صحيح ابن حبان، لكن روياه عن أحمد بن سعيد الهمداني أيضا.
فأحسن أسانيد هذا الحديث ما لم يكن فيه يزيد بن عبد الملك ولا أحمد الطائي، ولفظه في صحيح ابن حبان: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ)، ويظهر والله أعلم أن لفظة (فقد وجب عليه الوضوء) شاذة.
والحديث صححه الحاكم وابن عبد البر، وقال النووي: "في إسناده ضعف ولكنه يقوى بكثرة الطرق"، لكن رجح الدارقطني في العلل وقفه على أبي هريرة -رضي الله عنه- [العلل 8/131، المجموع 2/41]
3- عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: "كنت أمسك القرآن لسعد فاحتككت، فقال لي: لعلك مسست ذكرك؟ قلت: نعم، قال قم فتوضأ، فقمت فتوضأت" [ك 92، وصححه الألباني، الإرواء 1/161]
وقد يعارض هذا الاستدلال بأنه قول صحابي في مقابلة النص، والمقصود بالنص حديث طلق بن علي -رضي الله عنه-: (إنما هو بضعة منك) [حم 15851، ت 85، ن 165، د 182، جه 476] ثم على فرض كونه مرفوعا فقد يكون الأمر من سعد بن أبي وقاص لابنه على سبيل الاستحباب لا الوجوب.
4- أن الإنسان قد يحصل منه تحرك شهوة عند مس الذكر، أو القبل فيخرج منه شيء وهو لا يشعر، فما كان مظنة الحدث علق الحكم به.
5- أما حديث طلق بن علي، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- له: (إنما هو بضعة منك) منسوخ، لأنه قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبني مسجده أول الهجرة، أما بسرة فقد آمنت به عام الفتح.
القول الثاني: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث طلق بن علي -رضي الله عنه- أنه: (سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء؟ فقال: إنما هو بضعة منك) [حم 15851، ت 85، ن 165، د 182، جه 476، ومدار هذا الحديث على قيس بن طلق، وقيس هذا قال الشافعي عنه سألنا عنه فلم نجد أحدا يعرفنا به بحيث نأخذ بخبره، وقال يحيى بن معين أكثر الناس من الكلام فيه وفي رد خبره، وقال أبو زرعة وأبو حاتم لا يحتج بخبره ووهناه ولم يثبتاه، وأقوى ما يمكن أن يصل إليه من درجات التعديل أنه صدوق، والحديث صححه ابن حبان والطحاوي وعمرو بن الفلاس، وضعفه آخرون من أهل العلم منهم الشافعي والدارقطني وأبو زرعة وأبو حاتم، وقد نقل النووي الاتفاق على تضعيف الحديث، لكن هذا النقل متعقب، فقد تعقبه ابن عبد الهادي في المحرر، ورد دعوى الاتفاق على ضعف الحديث، والحديث قال عنه الحافظ في التلخيص الحبير: "رواه أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وصححه عمرو بن علي الفلاس، وقال هو عندنا أثبت من حديث بسرة، وروى عن بن المديني أنه قال: هو عندنا أحسن من حديث بسرة، والطحاوي وقال إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة، وصححه أيضا بن حبان والطبراني وابن حزم، وضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادعى فيه النسخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي وآخرون" ا.هـ، والحديث قال عنه الحافظ أيضا في الفتح: "صحيح أو حسن"، والأقرب أنه لا ينزل عن درجة الحسن عند التحقيق، وقيس هذا قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق].
وقوله (يمس ذكره في الصلاة) يفسرها رواية في ابن حبان (إن أحدنا يكون في الصلاة فيحتك فتصيب يده ذكره)، وفي رواية في صحيح ابن حبان (يا نبي الله ما تقول في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ)، وفي رواية في المسند (أيتوضأ أحدنا إذا مس ذكره) [حم 15851، موارد الظمآن 1/77، صحيح ابن حبان 3/403]
2- أن الأصل بقاء الطهارة، وعدم النقض، فلا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل متيقن.
القول الثالث: أن يجمع بين حديث بسرة وحديث طلق بن علي على وجهين، وهما روايتان عن الإمام أحمد:
1- أن يحمل حديث بسرة وما أشبهه على ما إذا كان بشهوة، وحديث طلق على ما إذا كان بغير شهوة، وقوله: (إنما هو بضعة منك) يدل على هذا الحمل، لأنك إذا مسست ذكرك بدون شهوة كأنما تمس سائر أعضائك، وحينئذ لا ينتقض الوضوء، وإذا مسسته لشهوة فإنه ينقض لأن العلة موجودة، وهي احتمال خروج شيء ناقض من غير شعور منك.
2- أن الأمر في حديث بسرة للاستحباب، وحديث طلق السؤال فيه عن الوجوب، فهو قد سأل عن الواجب بقوله (أعليه)، وكلمة (على) ظاهرة في الوجوب، وعلى هذا إذا مسه لغير شهوة فالوضوء مستحب لعموم حديث بسرة، وإذا كان بشهوة فإنه يجب الوضوء أخذا بالتعليل (إنما هو بضعة منك)، والجمعان السابقان متقاربان.
القول الرابع: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الوضوء من مس الذكر مستحب مطلقا ولو بشهوة، وقد ذكر هذا الجمع شيخ الإسلام في الفتاوى، وقال إنه أقوى الأقوال في هذه المسألة. [الإنصاف 1/202، مجموع الفتاوى 20/526، 21/241، 25/238، 26/192، المغني 1/116]
والذي يظهر أن الممكن في هذه النصوص المتعارضة أمور:
1- القول بنسخ حديث طلق بن علي، استنادا إلى أنه قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبني مسجده أول الهجرة.
2- التقييد بالحائل وغير الحائل، استنادا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: (ليس دونها ستر) وإلى قوله في حديث طلق بن علي: (يمس ذكره في الصلاة).
3- التقييد بالشهوة وبغير الشهوة، استنادا إلى قوله (إنما هو بضعة منك).
4- التقييد بالصلاة وبغيرها، استنادا إلى قوله: (يمس ذكره في الصلاة)
5- تخفيف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب.
- أما دعوى النسخ، فغير صحيحة لما يأتي:
أ- أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن.
ب- أن في حديث طلق علة لا يمكن أن تزول، وإذا ربط الحكم بعلة لا يمكن أن تزول فإن الحكم لا يمكن أن يزول، لأن الحكم يدور مع علته، والعلة هي قوله (إنما هي بضعة منك).
ج- أن أهل العلم قالوا: إن التاريخ لا يعلم بتقدم إسلام الراوي، أو تقدم أخذه لجواز أن يكون الراوي حدث به عن غيره، بمعنى: أنه إذا روى صحابيان حديثين ظاهرهما التعارض، وكان أحدهما متأخرا عن الآخر في الإسلام، فلا نقول إن الذي تأخر إسلامه حديثه يكون ناسخا لمن تقدم إسلامه، لجواز أن يكون رواه عن غيره من الصحابة، أو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدث به بعد ذلك.
- أما التقييد بالحائل وبغير الحائل، فلا يستقيم، لأن حديث أبي هريرة الذي في المسند ضعيف، وعلى فرض صحته فالتقييد بقوله: (ليس دونها ستر) هو للبيان لا للتقييد، كما قال تعالى {ولا طائر يطير بجناحيه}، أما حديث طلق (يمس ذكره في الصلاة) فلا يدل على ذلك لما بينته الروايات الأخرى كما سبق في رواية ابن حبان.
- أما التقييد بالشهوة وبغير الشهوة، فليس بقريب، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما هو بضعة منك) وإذا مس فرجه بشهوة أو بغير شهوة لم يخرج ذلك عن كونه بضعة منه، ويبعده أيضا أن التفريق في نقض الوضوء بمس الذكر بين ما إذا مسه بشهوة وما إذا مسه بغير شهوة غير ظاهر، لأن مجرد الشهوة غير ناقضة للوضوء، ولهذا لو نظر الإنسان إلى امرأة بشهوة لم ينتقض وضوءه، فإن قيل العلة في النقض ليست هي الشهوة فحسب، ولكن هي المس مع الشهوة، فالجواب أن هذه العلة غير صحيحة، لأن الإنسان لو مس أمردا بشهوة لم ينتقض وضوءه، فإن قيل العلة هي مس الذكر بشهوة، فالجواب أن المسألة صارت هي الدليل نفسه، فهذه مصادرة في البحث، ولو فرض صحة هذه العلة فلماذا لا يتنقض وضوء الإنسان بمس فرج دابة بشهوة، فإن قيل العلة هي مظنة الحدث قلنا هذه العلة غير كافية، لأن النظر للنساء بشهوة أحيانا يكون مظنة للحدث أكثر منه في المس، ومع هذا لا يتنقض وضوء الناظر إلى النساء بشهوة بمجرد النظر، وحتى إن سلمنا أن العلة هي مظنة الشهوة فنقول إن هذا المظنة لا يعمل بها إلا عند التحقق، والتحقق يكون بخروج شيء من أحد السبيلين، وخروج شيء من أحد السبيلين هو الناقض المجمع عليه من نواقض الوضوء، والله أعلم.
- أما التقييد بالصلاة وبغيرها فبعيد، لأنه وصف غير مقصود، وغير مناسب، وليس عليه دليل.
- أما تخفيف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، فهو أقرب الاحتمالات، فيكون معنى حديث بسرة: من مس ذكره فليتوضأ استحبابا، ويكون معنى الرواية الثانية: (فلا يصل حتى يتوضأ) أي استحبابا، ولا يقال إن النفي هنا لا يساعد على ذلك، لأن ذلك التأويل بدليل وهو حديث طلق، ثم إن مثل هذه العبارة قد ترد ويراد بها الاستحباب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني) [خ 637، م 604] أما حديث أبي هريرة: (فقد وجب الوضوء) فهو ضعيف، ويكون معنى حديث طلق: إنما هو بضعة منك فلا يجب الوضوء، ويدل لذلك أمران:
الأول: أن في بعض روايات حديث طلق: (عليه) [حم 15857] مما يدل على أن السؤال كان عن الوجوب، وأن الجواب كان عنه أيضا.
الثاني: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان الوضوء واجبا لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى أعلم.