** اختلف العلماء في غسل الجمعة على قولين:
القول الأول: وهو مذهب الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد، أن غسل الجمعة واجب، بل جعله ابن حزم واجبا على الرجال والنساء، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه السبعة [خ 858، م 846]
2- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل) [خ 877، م 844]
3- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما، يغسل فيه رأسه وجسده) [خ 898، م 849]
4- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا: (غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواكٌ ويمسُّ من الطيب ما قدر عليه) [خ 880، م 846]
القول الثاني: وهو مذهب جماهير الصحابة والتابعين وجمهور العلماء أن غسل الجمعة مستحب، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان الناس مَهَنَةَ أنفسهم -أو مهان أنفسهم-، فإذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم لو اغتسلتم) [خ 903، م 847] هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم (كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كُفاة -أي خدم يكفونهم العمل-، فكانوا يكون لهم تَفَلُ -الرائحة الكريهة-، فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة)
والدلالة في الحديث من وجهين:
الأول: أنها بينت العلة في الأمر بالغسل وهي التنظف وإزالة الروائح الكريهة.
الثاني: قولها (فقيل لهم) وهذا للعرض لا للإيجاب.
2- حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (كان الناس ينتابون -يأتون- الجمعة من منازلهم من العوالي -على بعد أربعة أميال من المدينة-، فيأتون في العَبَاء -جمع عباءة-، ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنسان منهم وهو عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا) [خ 902، م 847]
3- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثةِ أيام، ومن مس الحصى فقد لغا) [م 857] ووجه الدلالة أنه أثنى على من توضأ ولم يذكر الغسل.
وقال الحافظ: "وأجيب بأنه ليس فيه نفى الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ (من اغتسل) فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء" [الفتح 2/362]
ويشير الحافظ إلى حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- مرفوعا: (من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) [خ 910]
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) [م 857]
والذي يظهر أن الحمل الذي ذكره الحافظ غير وجيه، فإنه خلاف ظاهر النص، والروايات الأخرى التي ذكرت الغسل لا تعارضه من جهة أنها لم توجب الغسل، وإذا لم توجب الغسل، صح الاستدلال بالروايات التي اقتصرت على الوضوء.
4- حديث سمرة بن جندب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل) [حم 19585، ت 497، ن 1380، د 354، جه 1091، وحسنه النووي، وصححه الألباني، وقال الأرنؤوط: "حسن لغيره"]
والحديث من رواية الحسن عن سمرة، ورواية الحسن عن سمرة فيها خلاف، فبعضهم أثبت سماع الحسن من سمرة مطلقا وهذا رأي البخاري وعلى بن المديني وابن القيم، وبعضهم نفى سماع الحسن من سمرة مطلقا كالبزار، وبعضهم قال لم يسمع منه إلا حديث العقيقة (كل غلام مرتهن) الحديث، وسماع الحسن من سمرة ثابت في صحيح البخاري، فعن حبيب بن الشهيد قال: "أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن ممن سمع حديث العقيقة فسألته، فقال: من سمرة بن جندب". [خ 5472، ينظر أعلام الموقعين 2/456].
فإن كان الحسن سمع من سمرة فالحديث صحيح وإن لم يسمع فالحديث ضعيف بسبب الانقطاع، ولكن للحديث شواهد عديدة وإن كانت ضعيفة منها: حديث أنس -رضي الله عنه- عند ابن ماجة والطبراني في الأوسط، ومنها حديث جابر عند البيهقي، ومنها حديث ابن عباس عند البيهقي، فالحديث أقل أحواله أن يكون حسنا.
5- عن عكرمة مولى ابن عباس: (أن أناسا من أهل العراق جاءوا، فقالوا يا ابن عباس: أترى الغسل يوم الجمعة واجبا؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف إنما هو عريش، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا، فلما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الريح، قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه، ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل ووُسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق) [د 353، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 2/362، وحسنه الألباني]
والراجح والله أعلم أن غسل الجمعة ليس بواجب إلا لمن يكثر منه العمل، وتظهر منه الروائح الكريهة فيجب عليه الغسل، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤيد ذلك أنه في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا: (غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه) فقرن بين الغسل وبين السواك والطيب، ومن المعلوم أن السواك والطيب ليسا واجبين، فكذلك يكون الغسل.
وهذا الاستدلال قد ذكره الطبري والطحاوي والقرطبي، قال الحافظ في الفتح: "وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف، وقال ابن المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه، لأن لقائل أن يقول: أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان ابن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر" ا.هـ
وما ذكره ابن المنير في الحاشية قد يجاب عنه بأن الغسل أيضا أخرج من الوجوب بدليل، ودلالة كون السواك والطيب مسنونين على سنية الغسل يسميها العلماء دلالة الاقتران، وقد ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد [4/356] أن دلالة الاقتران ثلاثة أنواع:
الأولى: قوية، إذا جمع بين المقترنين لفظ اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله، كقوله: (حق على كل مسلم الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن وجد) فقد اشترك الثلاثة في إطلاق لفظ الحق عليه، فإذا كان السواك والتطيب مستحبين كان الثالث كذلك، ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الفطرة خمس) وفي مسلم (عشر من الفطرة) ثم فصلها، فإذا جعلت الفطرة بمعنى السنة، والسنة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان، لكن قال ابن القيم: "تلك المقدمتان ممنوعتان، فليست الفطرة بمرادفة للسنة، ولا السنة في لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- هي المقابلة للواجب، بل ذلك اصطلاح وضعي لا يحمل عليه كلام الشارع"
الثانية: ضعيفة، عند تعدد الجمل واستقلال كل واحدة منها بنفسها، كقوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة) إذ إن كل جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها وغايتها، وهما جملتان منفصلتان.
الثالثة: التساوي حيث كان العطف ظاهرا في التسوية وكان قصد المتكلم ظاهرا في الفرق، فيتعارض هنا ظاهر اللفظ وظاهر القصد فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر وإلا طلب الترجيح.
وكلام ابن القيم يدل على أن دلالة الاقتران هنا قوية. [انظر إحكام الأحكام 1/127]
** اختلف العلماء هل غسل الجمعة لليوم أم للصلاة، على أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور أن الغسل للصلاة، ويدخل وقته بطلوع الفجر، واستدلوا بما يأتي:
1- عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل) [خ 877، م 844]، ووجه الدلالة أنه قيد الغسل بالمجيء إلى الجمعة، فهو غسل للصلاة.
2- عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (كان الناس ينتابون -يأتون- الجمعة من منازلهم من العوالي -على بعد أربعة أميال من المدينة- فيأتون في العَبَاء -جمع عباءة- ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنسان منهم وهو عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا) [خ 902، م 847] فجعل الغاية من التطهر حضور الصلاة بهيئة حسنة ورائحة طيبة.
3- عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل" [خ 878، م 845] ووجه الدلالة أن عمر -رضي الله عنه- أنكر عليه المجيء للصلاة بدون غسل؛ فعلم أن الغسل للصلاة، لأنه لو كانت لليوم لما كان فيه إنكار، فإنه يسعه أن يغتسل بعد الصلاة.
4- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) [خ 881، م 850] ووجه الدلالة أنه قال (من اغتسل .. ثم راح) وهو يدل على أن الغسل يسبق الصلاة.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية أن غسل الجمعة للصلاة، ويبدأ قبيل الذهاب إليها، فلا يجزئه إلا عند الذهاب إليها، فلو اغتسل بعد الفجر ولم يذهب مباشرة للمسجد لم يجزئه ويندب له إعادته.
القول الثالث: وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية أن الغسل للصلاة، ووقته أن يصلي الجمعة بذلك الغسل، وعلى هذا فلو اغتسل قبل الفجر وصلى الجمعة بذلك الغسل اجزأه، ولو اغتسل قبيل الجمعة ثم أحدث قبل أن يصلي أعاد الغسل، واستدل بأن اليوم يطلق ويراد به اليوم والليلة.
القول الرابع: أن الغسل لليوم، فيمتد إلى غروب الشمس، وهو مذهب ابن حزم، واختاره بعض الأحناف، واستدلوا بما يأتي:
1- عن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواكٌ ويمسُّ من الطيب ما قدر عليه) [خ 880، م 846]
2- حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (كان الناس ينتابون - يأتون - الجمعة من منازلهم من العوالي - على بعد أربعة أميال من المدينة - فيأتون في العَبَاء - جمع عباءة - ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنسان منهم وهو عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا) [خ 902، م 847] والشاهد قوله (ليومكم)
والراجح هو مذهب الجمهور، لأن الأحاديث التي أطلقت (اليوم) بينت الحكمة من هذا الاغتسال.
** وينبي على المسألة السابقة أن من قال إن الغسل للجمعة قال إنه مشروع لمن تلزمه الجمعة ومن أراد حضورها ممن لا تلزمه كالنساء، ولا يشرع لمن لم يرد حضور الجمعة، وهذا مذهب الجمهور، وهو الأقرب، ومن قال إن الغسل لليوم، قال إنه مشروع حتى للمرأة ومن لم يحضر الجمعة، بل قال ابن حزم إن غسل الجمعة واجب على الرجال والنساء.