** أجمع العلماء على نجاسة دم الحيض كما نقله النووي والشوكاني، ودليل ذلك حديث أسماء -رضي الله عنها- قالت: (جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحتُّه -يعني تحكه- ثم تقرصه -وهو الفرك والدلك بالأصابع- بالماء وتنضحه وتصلي فيه) [خ 227، م 291]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (وتنضحه) يحتمل أن يكون معناه تغسله، ويحتمل أن يكون المراد الرش، وكلاهما قولان للعلماء، وعلى أي حال فإن قوله (تقرصه بالماء) يدل على أنها تغسل الدم.
ويدل لهذا الإجماع أيضا حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي) [خ 228]، ووجه الدلالة قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فاغسلي عنك الدم).
** اختلف العلماء في نجاسة دم الإنسان الخارج من غير السبيلين على قولين:
القول الأول: أنه نجس لكن يعفى عن يسيره، وهو مذهب جماهير العلماء وقد حكاه بعضهم إجماعا كابن حزم وابن نجيم، وحكاه بعض العلماء اتفاقا، وهذا ما نقل عن العلماء في هذه المسألة:
1- حكاه الحافظ ابن حجر اتفاقا، فقال: "والدم نجس اتفاقا" [فتح الباري 1/420]، لكن هذا الاتفاق لا يعني الإجماع.
2- وسئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له "عن الدم والقيح عندك سواء؟ فقال لا، الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه"، وهذا لا يقتضي نقل الاجماع.
3- قال ابن عبد البر: "وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس" [التمهيد 22/230]، وهذا نقل للإجماع على الدم المسفوح وليس كل دم.
4- قال ابن حزم في مراتب الإجماع: "واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه نجس" [مراتب الإجماع 19]
5- قال النووي: "والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف" [المجموع 2/576]
6- قال ابن العربي: "اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد عينه الله تعالى هاهنا مطلقا، وعينه في سورة الأنعام مقيدا بالمسفوح، وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا" [أحكام القرآن 1/79] فهذا نقل منه للإجماع على أن المراد بالدم هو الدم المسفوح.
7- قال ابن نجيم: "إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن ناقضا عند الشافعي" [البحر الرائق 1/21]
واستدلوا على قولهم بأدلة منها:
1- عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه سئل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: (جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغسل الدم، وعلي يمسك -يعني الماء ويصب عليها كما في روايات أخرى فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة، أخذت حصيرا فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألزقته فاستمسك الدم) [خ 2911، م 1790]
وأجيب عن هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو الأقوى أن فاطمة -رضي الله عنه- إنما كانت تغسل الدم لأجل أن يتوقف، ولهذا أحرقت الحصير حتى يستمسك الدم، فليس فيه أن غسل للدم لأجل النجاسة.
الثاني: أنه مجرد فعل، وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- المجرد عن القرائن لا يدل على الوجوب.
الثالث: أنه يحتمل أنه من أجل النظافة لإزالة الدم عن الوجه؛ لأن الإنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيرا، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
2- قوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به}، ووجه الدلالة أنه سماه رجسا.
وأجيب بأن تحريم الأكل لا يستلزم نجاسة العين، والآية جاءت في سياق تحريم الأكل لا في سياق بيان النجاسة، بدليل قوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه}، ولأن الرجس قد يراد بن النجاسة المعنوية، بل إن الرجس في كلام الشارع أكثر ما أطلق على النجاسة المعنوية، نحو قوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وقوله {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} وقوله {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} وقوله {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} وقوله {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} وقوله {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} وقوله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، هذه المواضع التي ورد فيها الرجس بمعنى النجاسة المعنوية في القرآن الكريم، وبقي موضعان هما محل خلاف بين العلماء، وهما قوله تعالى {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} وقوله تعالى {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس}، وفي السنة النبوية حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- مرفوعا: (الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم) [خ 3473]
3- قياس سائر الدماء على دم الحيض.
وأجيب بأن بينهما فرقا، لأن دم الحيض دم طبيعة وجبلة للنساء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الاستحاضة: إنه دم عرق، ففرّق بينهما، ولأن دم الحيض غليظ مُنتن له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصح قياس الدم الخارج من غير السبيلين على الدم الخارج من السبيلين.
القول الثاني: أن دم الآدمي ما لم يخرج من السبيلين طاهر، وهو اختيار الشوكاني وصديق حسن خان والألباني وشيخنا ابن عثيمين، وقال ابن مفلح: "ويعفى على الأصح عن يسير دم وما تولد منه (و) وقيل من بدنه، وفي يسير دم حيض أو خارج السبيل وحيوان طاهر لا يؤكل وجهان، وفي دم حيوان نجس احتمال (هـ) وعنه طهارة قيح ومدة وصديد ودم" [الفروع 1/253] واستدلوا بما يأتي:
1- أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة، ولا نعلم -صلى الله عليه وسلم- أمر بغسل الدم إلا دم الحيض، مع كثرة ما يُصيب الإنسان من جروح ورعاف وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجسا لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
2- أن ميتة الإنسان طاهرة فيكون دمه كذلك، مثل دم حيوان البحر.
3- أن الجزء المنفصل منه في الحياة طاهر، فطهارة الدم من باب أولى.
4- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بغسل دم الشهيد، ولو كان نجسا لأمر بإزالته، ولا فرق مؤثر بين الشهيد وبين غيره حتى يقال إن دم الشهيد مستثنى.
ورد بأن الشهيد يبعث وجرحه ينزف دما، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
وأجيب بأن الدم الذي يبعث به الشهيد ليس هو الذي يدفه فيه في ثيابه، لأن الله ينشئه نشأة أخرى، والحكم بالطهارة والنجاسة حكم وضعي، وهو لا يختلف في العين الواحدة، فهو دم بني آدم خرج منه، فلا فرق بين أخرج منه حال كونه حيا أو شهيدا، وإذا كان نجسا فإنه لا يطهر إلا باستحالة أو تطهير، فدل دفن الشهيد في دمه على أن دمه طاهر، وكذلك غير الشهيد.
5- أن المسلمين كانوا يصلون في جراحاتهم كما قال الحسن [خ تعليقا، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، فتح الباري 1/280]، وكما حصل مع أحد الصحابة في غزوة ذات الرقاع لما أصيب بسهم فأتم صلاته [حم 14294، خ تعليقا في الموضع السابق، د 198، وصححه ابن خزيمة في صحيحه 1/24، وحسنه الألباني، وانظر الفتح 1/281]، وصلى عمر وجرحه يثعب دما [ك 84، وصححه الحافظ في الفتح 1/281]
وأجيب عنه بأن الصحابة رضي الله عنهم كان أكثرهم فقيرا، وقد لا يكون له من الثياب إلا ما كان عليه، ولا سيما أنهم كانوا في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثياب عليهم للضرورة.
ورد بأنه لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إلى غسله متى وجدوا إلى ذلك سبيلا بالوصول إلى الماء أو البلد وما أشبه ذلك.
وأجيب أيضا بأن هذا لا يمكن التحرز منه إذا لو غسل ثوبته لاستمر يخرج فلم يستفد شيئا، وكذلك ثوبه لو غيره بثوب آخر.
ورد بأنه لم يرد عنهم التحرز من هذا الأمر، بل ورد عنهم خلافه، ومن المعلوم أن ترك مثل هذا الدم سوف ينجس المسجد، فلا أقل من أن يفعل كما تفعل المستحاضة أنها تضع طستا تحتها.
6- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-لم ينزه المسجد من أن يجلس فيه الجريح والمستحاضة، وهما أصحاب جرح ينزف، وقد يتلوث المسجد، فلو كان نجسا لجاء الأمر بالنهي عن دخول المسجد، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يَرُعهم وفي المسجد خيمة من بني غِفَار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات فيها) [خ 463]، وعن عائشة -رضي الله عنها-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم) [خ 309]
7- عن ميمون بن مهران قال: "رأيت أبا هريرة رضي الله عنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج فيها دم، ففته بأصبعه، ثم صلى ولم يتوضأ" [المحلى 1/239]
وأجيب بأنه يعفى عن اليسير من الدم.
ورد بأنه لا فرق بين القليل والكثير، والآثار السابقة فيها ما يدل على أنه يخرج الدم الكثير ولا يتحرزون منه.
8- جواز وطء المستحاضة ودمها ينـزل، ولو كان الدم نجسا لحرم الجماع كما حرم حال الحيض في قوله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فدم الاستحاضة ليس أذى، فلا يمنع من الجماع، ولا من التلطخ به.