** اختلف العلماء في جلد الميتة بعد الدباغ على أقوال:
القول الأول: وهو مذهب المالكية والحنابلة أن جلد الميتة إذا دبغ فإنه لا يطهر، لكن يباح أن يستعمل جلدها مع يابس، لأن الجلد نجس، فإذا صادف محلا يابسا فإن النجاسة التي فيه لا تنتقل؛ لأن النجاسة لا تنتقل من يابس إلى يابس، واستدلوا على أنه لا يطهر الجلد بدباغه بما يأتي:
1- عن عبد الله بن عكيم قال: (قريء علينا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أرض جهينة وأنا غلام شاب ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) [حم 18303، ت 1729، ن 4249، د 4127، جه 3613]
وأجيب عنه بأنه على القول بتضعيف حديث عبد الله بن عكيم فلا إشكال، والحديث قد أعل بالإرسال والانقطاع والاضطراب، وقد ضعفه الإمام أحمد ورجع إلى القول بطهارة الجلد بالدباغ، إلا أن مشهور مذهب الحنابلة أنه لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، وضعف الحديث يحيى بن معين وابن دقيق العيد والبيهقي وابن الجوزي ومن المتأخرين أحمد شاكر.
وقابل ذلك جماعة من العلماء صححوا الحديث أو حسنوه، كابن حبان وابن حزم والحافظ ابن حجر، ومن المتأخرين الألباني، وعلى القول بصحة الحديث فيجاب عن الاستدلال به من وجهين:
الوجه الأول: أن يقال إن الإهاب إنما يطلق على الجلد قبل أن يدبغ، أما إذا دبغ فإنه لا يسمى إهابا، وهذا القول منقول عن النضر بن شميل من متقدمي أئمة اللغة، وجزم به الجوهري واختاره ابن عبد البر، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: لا تنتفعوا بجلود الميتة قبل أن تدبغوها. [كشاف القناع 1/54]
الوجه الثاني: أن يقال إن أحاديث طهارة جلد الميتة بالدباغ أصح من هذا الحديث الذي لم يروه أحد من أهل الصحيحين، وهو كذلك مختلف في صحته وليس صريحا في التحريم.
2- ما رواه ابن وهب بإسناده عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء)، والحديث حسنه بعض العلماء كالموفق، والصحيح أن الحديث ضعيف ففيه زمعه بن صالح وهو ضعيف، وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير [1/77]
واستدلوا على جواز الاستعمال بعد الدبغ في اليابسات بأحاديث الدباغ التي سيأتي ذكرها.
القول الثاني: وهو مذهب الجمهور وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهي الرواية المتأخرة التي رجع إليها، واختارها بعض أصحابه وهو الراجح، أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، ثم اختلفوا أي جلود الميتة يطهرها الدباغ، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (تُصُدِّق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به، فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها) [خ 1429، م 363] وعن العالية بنت سبيع أن ميمونة -رضي الله عنها- حدثتها: (أنه مر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ) والقرظ هو ورق الشجر الذي يستخدم في الدباغ. [حم 26293، ن 4248، د 4126، وصححه ابن السكن والحاكم، وصححه الألباني، والحديث في إسناده كثير بن فرقد وفيه جهالة]
2- عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) [م 366]
وهذا الحديث مداره على عبد الرحمن بن وعلة، وقد ذهب بعض العلماء كالإمام أحمد إلى تضعيف حديثه في الدباغ، وابن وعلة وثقة يحيى بن معين والنسائي، وفي التقريب: صدوق، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومما قد يسمى صحيحا ما يصححه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل مثل حديث ابن وعلة عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) فإن هذا انفرد به مسلم عن البخاري وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره وقد رواه مسلم" [مجموع الفتاوى 18/17]
3- عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمر أن يُستمتع بجلود الميتة إذا دبغت) [حم 24209، ن 4252، د 4124، جه 3612، وضعفه الألباني]
4- عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دباغ جلود الميتة طهورها) [حب 4/105] وهو عند الدارقطني من حديث زيد بن ثابت [قط 1/128]، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وأجيب عن هذا القول بأن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ للأحاديث الأخرى، فإن في بعض رواياته: (قبل موته بشهر أو شهرين) [حم 18305، د 4128]
ورد بأن النسخ يشترط له معرفة المتقدم من المتأخر، وما المانع أن تكون أحاديث طهارة جلد الميتة بالدباغ وردت دون الشهرين، ثم إن الجمع أولى من النسخ وهو ممكن هنا.
فإن قيل: كيف نقول بأن جلد الميتة يطهر بالدباغ، بينما لا يطهر لحمها لو دبغ، والكل من أجزاء الميتة؟ والجواب من وجهين:
الأول: أنه متى ثبت الفرق في الكتاب والسنة بين شيئين متشابهين، فلا بد أن يكون بينهما فرقا، وإن لم يتوصل له المجتهد.
الثاني: أنه يمكن التفريق بين اللحم والجلد، فإن حلول الحياة فيما كان داخل الجلد أشد من حلولها في الجلد نفسه، لأن الجلد فيه نوع من الصلابة، بخلاف اللحوم، والشحوم، والأمعاء، وما كان داخله فإنه ليس مثله، فلا يكون فيه من الخبث -الذي من أجله صارت الميتة حراما ونجسة- مثل ما في اللحم ونحوه، ولهذا نقول: إنه يعطى حكما بين حكمين:
الحكم الأول: أن ما كان داخل الجلد لا يطهر بالدباغ.
الحكم الثاني: أن ما كان خارج الجلد من الوبر والشعر فإنه طاهر، والجلد بينهما، ولهذا أعطي حكما بينهما. [الشرح الممتع 1/88]
** اختلف الجمهور في الجلد الذي تنفعه الدباغة على أقوال:
القول الأول: وهو قول الحنابلة -على رواية طهارة جلود الميتة بالدباغ- أن جلد كل طاهر في الحياة يطهره الدباغ ولو لم يكن مأكول اللحم، وهذا القول هو أحد اختياري شيخ الإسلام ابن تيمية كما حكاه المرداوي [الإنصاف 1/87، الاختيارات الفقهية ص42]، واستدل أصحاب هذا القول بعموم الأدلة الدالة على طهارة جلد الميتة بالدباغ، وإنما استثنوا ما كان نجسا في الحياة لأنه نجس عين، فهو نجس حيا وميتا فلم يكن الدباغ مؤثرا فيه.
القول الثاني: أنه يطهر جلد مأكول اللحم دون غيره -أي ما تحله الذكاة- وهذا مذهب الليث وإسحاق والأوزاعي وهو ما اختاره شيخ الإسلام كما في الفتاوى وكما في شرح العمدة [مجموع الفتاوى 21/95، شرح العمدة 1/125] وعلى هذا فيكون لشيخ الإسلام قولان، وهذا القول هو أقرب الأقوال، واستدلوا بما يأتي:
1- عن سلمة بن المحَبِّق -بفتح الحاء وكسر الباء المشددة وهو من الصحابة- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ذكاة الأديم دباغه) [حم 15478] والحديث في إسناده جون بن قتادة وهو مجهول، فقد قال الإمام أحمد: لا أعرفه، وفي التقريب: مقبول، وفيه الحسن وقد عنعنه، لكن الحديث صححه الحافظ في التلخيص الحبير 1/49، ورد جهالة جون بن قتادة، إلا أن بعض العلماء كالبخاري رجح وقفه، وخالفه الدارقطني فرجح الرفع، وعن سلمة بن المحَبِّق أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دعا في غزوة تبوك بماء من عند امرأة، فقالت: ما عندي إلا في قربة لي ميتة، قال: أليس قد دبغتها؟ قالت: بلى، قال: فإن دباغها ذكاتها) [ن 4243، وفيه جون بن قتادة وقد سبق أنه ليس بمجهول، والحديث صححه الألباني] ووجه الدلالة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الدباغ بمنزلة الذكاة وشبهه به، ومن المعلوم أن الذكاة لا تؤثر إلا في مأكول اللحم.
وأجيب عنه بأن المقصود من قوله (ذكاة الأديم) أي طهوره كما في الروايات الأخرى.
ورد بأن الحديث فيه إشارة إلى أن الدباغ لا يطهر إلا ما تنفع فيه التذكية.
2- عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نهى عن لبوس جلود السباع والركوب عليها) [ن 4255، وقال الحافظ في الفتح: "وقد ثبت النهي عن الركوب على جلود النمور، أخرجه النسائي من حديث المقدام بن معد يكرب"، وصححه الألباني]
3- عن أسامة بن عمير بن عامر الهذلي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نهى عن جلود السباع) [ن 4253، د 4132، وصححه الألباني] وفي رواية عن -رضي الله عنه- (نهى عن جلود السباع أن تفترش) [ت 1771، وصححه الألباني]
4- عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر) [د 4130، وذكره في الفتح وسكت عنه 10/294، وأعله الدارقطني في العلل 10/328، وحسنه النووي في خلاصة الأحكام 1/78، وحسنه الألباني، ثم تراجع عن ذلك في السلسلة الضعيفة 6687، وضعفه الأرنؤوط في تحقيق سنن أبي داود] ووجه الدلالة مما سبق هو عموم النهي، وظاهره حتى ولو دبغ جلد السبع، بل لا يكاد يستعمل جلد السباع إلا مدبوغا، مما يدل على أنه لا تطهر جلود السباع مطلقا، وهذا يدل على أن ما لا يؤكل لحمه لا يطهر جلده ولو دبغ.
القول الثالث: وهو مذهب الظاهرية أن كل جلد يطهر بالدباغ ولو كان جلد خنزير أو كلب، واستدلوا بأن الميتة نجسة، وجلدها نجس كذلك، فإذا قلنا إن جلدها يطهر بالدباغ فلا فرق حينئذ بين ما كان طاهرا في الحياة وبين ما لم يكن كذلك، ولا فرق بين ما يؤكل وما لا يؤكل، لأنه الكل يجمعه أن جلد نجس فيطهره الدباغ، ومن فرق بين ما كان طاهرا في الحياة أو بين ما تحله الذكاة وبين ما لم يكن كذلك فلا دليل معه، وما بينهما من فرق غير مؤثر، لأن المهم أنه جلد نجس، فيطهره الدباغ، أما حديث: (ذكاة الأديم دباغه) فقد يكون من باب ذكر بعض أفراد العام بحكم لا يخالف العام، وهذا لا يقتضي التخصيص عند الجمهور.
القول الرابع: وهو قول الشافعية أن كل جلد يطهر بالدباغ إلا جلد الخنزير والكلب.
القول الخامس: وهو قول الأحناف أن كل جلد يطهر بالدباغ إلا جلد الخنزير لرجسيته، وبعضهم يقول: إن الخنزير ليس له جلد ينفصل عنه.