** الاستحاضة لغة: سيلان الدم في غير أوقاته المعلومة، وعرفه الحنفية بأنه اسم لما نقص عن أقل الحيض أو زاد على أكثره، وهو تعريف مبني على مسألة هل للحيض أقل وأكثر؟ وقد سبقت، والأقرب أن الاستحاضة هي: استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبدا أو ينقطع عنها مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر.
ودليل الحالة الأولى التي لا ينقطع فيه الدم أبدا حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟) [خ 228، م 333]
ودليل الحالة الثانية التي لا ينقطع الدم فيها إلا يسيرا حديث حمنة بنت جحش حيث جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها؟) [حم 26928، ت 128، د 287، جه 614، وصححه الترمذي ونقل عن الإمام أحمد تصحيحه وعن البخاري تحسينه، وسيأتي تخريجه في الأحاديث التي جاءت في المستحاضة]
** للاستحاضة عدة أسباب منها:
1- وجود أورام بجسم الرحم وقد تكون حميدة أو خبيثة.
2- وجود قرحة بعنق الرحم، ومن أسبابها حبوب منع الحمل.
3- وجود ورم خبيث في عنق الرحم، مما يبسب نزول الدم ويصاحبه قيح ورائحة متعفنة.
4- وجود التهابات أو أورام في الفرج، ويحدث غالبا عند النساء المسنات أو الفتيات قبل البلوغ، ومن أسبابه استعمال المطهرات لحماية الفرج من الإفرازات، اعتقادا منهن بأن هذه الإفرازات ضارة، والعكس صحيح، حيث إن هذه المطهرات تعيق الإفرازات الحمضية عن أداء دورها الطبيعي وتحدث نزيفا إلى خارج الفرج.
5- قد يخرج دم يسير من عنق الرحم عن الكشف أو أخذ عينة أو مسحة من عنق الرحم.
6- العامل الوراثي. [موسوعة الدبيان- الحيض ص: 1010]
** المستحاضات في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة هن:
1- أسماء بنت أبي حبيش، وحديثها عند الجماعة.
2- حمنة بنت جحش، وكانت تحت طلحة بن عبيد الله.
3- أسماء بنت مرثد، وحديثها عند ابن منده.
4- زينب بنت جحش، أخت حمنة، وهي زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
5- حبيبة بنت جحش، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، ولهذا قال ابن عبد البر إن ثلاثا من بنات جحش استحضن.
6- سهلة بنت سهيل، وحديثها عند أبي داود.
7- أم سلمة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
8- سودة بنت زمعة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
9- أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
10- بادية بنت غيلان.
الأحاديث في المستحاضة
قال الإمام أحمد: " قال أحمد الحيض يدور على ثلاثة أحاديث حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة"، وفي رواية "أم سلمة مكان أم حبيبة" [كشاف القناع 1/465]
1- عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (إن أم حبيبة سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الدم، فقالت عائشة: رأيت مِرْكَنَها -وهو الإناء الكبير- ملآن دما، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي) [م 334]
2- عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي) [خ 306، م 333]
3- عن سليمان بن يسار عن أم سلمة -رضي الله عنها-: (أن امرأة كانت تُهراق الدم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خَلَّفت ذلك فلتغتسل ثم لِتستثفر ثم لِتصلي) [ك 138، ن 208]
4- قال النسائي أخبرنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن عمرو عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش: (أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يُعرَف، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق) "قال محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي هذا من كتابه" [ن 362، د 286]
وقد روى أبو داود هذا الحديث وقال بعده: "قال أبو داود: وقال ابن المثنى حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا به بعد حفظا قال حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة كانت تستحاض فذكر معناه"، وقد رواه النسائي أيضا بالسند الثاني الذي عند أبي داود، والمتأمل للسند يجد أن فيه اضطرابا، لأن ابن أبي عدي مرة رواه عن عائشة، ومرة لم يذكرها، وهناك وجه ثالث للاضطراب، وهو أن البيهقي في سننه وابن المنذر في الأوسط رووه من طريق ابن أبي عدي عن محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فجعل الرواية مرسلة من مراسيل عروة.
ولهذا ذهب بعض العلماء إلى الحكم بضعف الحديث للاضطراب الذي فيه، ولكن الصحيح أنه لا يحكم بالاضطراب إلا إذا امتنع الترجيح، والترجيح هنا ممكن بأن يقال إن ما حدث به ابن أبي عدي من كتابه هو أضبط مما حدث به من حفظه، فنرجح رواية الزهري عن عروة عن فاطمة، وقد صحح الحديث جمع من العلماء منهم الحاكم والذهبي وابن حزم والنووي.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (يعرف) هو بفتح الراء، وهذه هي الرواية المشهورة، أي أن النساء تعرفه بلونه ونتنه ورائحته وثخونته ونحو ذلك، ورويت: (يعرف) بكسر الراء أي له رائحة، والرواية الأولى أقوى وأشهر وأشمل.
5- عن حمنة بنت جحش قالت: (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أستفتيه وأخبره فقال: إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي، فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي، كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلين حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين، قال: وهو أعجب الأمرين إلي) [حم 26603، ت 128، د 287، جه 619، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح وسألت محمدا -أي البخاري- عن هذا الحديث فقال هو حديث حسن صحيح، وهكذا قال أحمد بن حنبل هو حديث حسن صحيح"، وقال أبو داود: "سمعت أحمد يقول حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء"، والحديث اختلف أهل العلم فيه فضعفه ابن حزم والإمام أحمد في رواية أبي داود، وصححه البخاري والإمام أحمد في رواية الترمذي، والترمذي والشوكاني وابن العربي، وحسنه من المعاصرين الألباني].
فحديث أم حبيبية وأم سلمة ورواية الصحيحين لقصة فاطمة بنت أبي حبيش، ردهم فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العادة.
وحديث فاطمة بنت أبي حبيش في السنن ردها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه إلى التمييز.
وحديث حمنة بنت جحش ردها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غالب حيض النساء.
واختلف العلماء على ضوء هذه الأحاديث في حكم المستحاضة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الحنابلة وهو العمل بالأحاديث السابقة:
1- فإذا كان للمستحاضة عادة ردت إلى عادتها.
2- فإن لم يكن لها عادة عملت بالتمييز، والتمييز له أربع علامات:
الأولى: اللون، فدم الحيض أسود، والاستحاضة أحمر.
الثانية: الرقة، فدم الحيض ثخين غليظ، والاستحاضة رقيق.
الثالثة: الرائحة، فدم الحيض منتن الرائحة كريه، ودم الاستحاضة غير منتن لأنه دم عرق عادي.
الرابعة: التجمد، فدم الحيض لا يتجمد إذا ظهر لأنه تجمد في الرحم، ثم انفجر وسال فلا يعود ثانية للتجمد، والاستحاضة يتجمد لأنه دم عرق.
3- فإن لم يكن لها عادة ولا تمييز ردت إلى عادة غالب النساء، وهي ستة أو سبعة أيام، وهذه الستة أو السبعة ليست للتخيير، بل تنظر في حالها وحال أقاربها من النساء، وتبدأ حيضها من أول وقت أتاها الحيض، فإذا قدر أن أول ما رأت الدم في الخامس عشر من الشهر، فكلما جاء الخامس عشر من الشهر تجلس ستة أيام أو سبعة، فإن نسيت متى أتاها الدم أول مرة فإنها ترجع إلى أول الشهر الهجري، فتجلس أول كل شهر. [الشرح الممتع 13/368]
القول الثاني: أنها تعمل بالتمييز، ثم بالعادة، وهذا مذهب الشافعية ورواية عن أحمد.
القول الثالث: أنها تعمل بعادتها لا بالتمييز، وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، واستدلوا بأن العادة قد ثبتت واستقرت، والتمييز معرض للزوال، فإن ابتدأت مع البلوغ مستحاضة فذهب الأحناف إلى أن حيضها عشرة أيام من كل شهر، والباقي استحاضة.
القول الرابع: أنها تعمل بالتمييز ولا تعمل بالعادة، بشرط أن يتقدمه أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوما، وهذا مذهب الإمام مالك ورواية عن أحمد، فإن لم تميز، فهي مستحاضة -أي باقية على أنها طاهر-، ولو مكثت طول عمرها.
[المغني 1/226، بدائع الصنائع 1/41، الفروع 1/274، قواعد ابن رجب ص341، الجوهرة النيرة 1/33، المجموع 2/455، فتح القدير 1/176، أسنى المطالب 1/106، الموسوعة الكويتية 3/203، الفقه الإسلامي وأدلته 1/640]
** إذا اجتمع في المرأة أمران بأن كان لها عادة ولها تمييز فاختلف العلماء، مثال ذلك: امرأة مستحاضة عادتها أن يأتيها الحيض ستة أيام، ولكنها لو عملت بالتمييز فإن الحيض يتميز عن الاستحاضة بعد ثمانية أيام، فهل تعمل بالعادة فتعتبر الدم بعد ستة أيام دم استحاضة، أو تعمل بالتمييز فتعتبر الدم بعد ثمانية أيام دم استحاضة، اختلف الجمهور في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها تقدم العمل بالتمييز، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بأن التمييز صفة الدم فهو أولى من العادة؛ لأن العادة زمان قد انقضى.
القول الثاني: أنها تقدم العادة على التمييز وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال ابن قدامة إنه ظاهر كلام أحمد، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
والقول الثاني هو الراجح لأن الرد إلى العادة كان في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، والرد إلى التمييز كان في قصتها أيضا، وقصتها التي ردت فيها إلى عادتها رواها الجماعة، أما قصتها التي ردت فيها إلى التمييز فقد اختلف العلماء في صحتها، وقد سبق بيان الخلاف فيها، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبية وأم سلمة حيث ردهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العادة. [المغني 1/232]