** اختلف العلماء في حكم الصوم بعد النصف من شعبان على أقوال:
القول الأول: أنه يحرم الصوم من النصف من شعبان، إذا لم يصله بما قبله، أما إن وصله بما قبله بصوم يوم أو يومين إلى آخر شعبان متواصلا جاز، وهذا هو المصحح عند الشافعية. [أسنى المطالب 1/419، فتاوى الرملي 2/60، 61، تحفة المحتاج 3/417]
واستدلوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) [حم 9414، واللفظ له، جه 1651، دمي 1740، د 2337، ت 738، وصححه الألباني] ولفظ أبي داود: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، ولفظ الترمذي: (إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا)، ولفظ ابن ماجة: (إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يجيء رمضان).
وأجيب عن الحديث بأن الحافظ قد نسب تضعيفه لجمهور العلماء [الفتح 4/129]
وقال ابن رجب: "وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر، والذين تكلموا فيه الإمام أحمد فقال: حديث منكر، وعبد الرحمن بن مهدي فقد كان لا يحدث به استنكارا له، وأبو زرعة فقال: منكر، ويحيى بن معين فقال منكر، والإمام النسائي فقال لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير العلاء، وممن تكلم في الحديث أبو بكر الأثرم، والخليلي وابن الجوزي، والبيهقي ومغلطاي"
والحديث صححه ابن حبان والحاكم وأبو عوانة والطحاوي وابن حزم وابن عبد البر وابن عساكر وغيرهم.
والذين ضعفوا الحديث جعلوه من مفاريد العلاء بن عبد الرحمن، وهو في ذاته ثقة، فقد وثقه الإمام أحمد، لكن هذا التوثيق لمجموع حديثه لا لأعيانها، ولهذا أعل الحديث الإمام أحمد واستنكره، بل قال: "لم يحدث -يعني العلاء- حديثا أنكر من هذا"، وقد بين أبو داود أنه من مفاريده. [شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام 2/648]
ومن وجوه نكارة الحديث أن فيه نهيا عن صيام خمسة عشر يوما متتالية، وإذا كان النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين جاء من وجوه ثابتة لا مطعن فيها؛ لأن ذلك مما تتوافر الهمم على نقله، فكيف لا ينقل النهي عن صيام نصف شهر إلا بأسانيد متكلم فيها، فهذا مما يبين نكارة الحديث.
ويعارضه أيضا حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر من صيام شعبان، والإكثار لا يكون إلا من الشطر وزيادة. [الأحاديث المعلة في الصوم للطريفي]
القول الثاني: أنه يجوز الصوم بعد النصف من شعبان، أما حديث أبي هريرة في السنن فهو محمول على من يضعفه الصوم، وهو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية. [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/317، شرح مختصر خليل للخرشي 2/283]، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه) [خ 1914، م 1082] فإن مفهومه أن تقدم رمضان بصيام أكثر من ذلك لا بأس به.
2- حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا أنه كان يصل شعبان برمضان) [ن 2175، د 2336، جه 1648، وصححه الألباني]
3- عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: (هل صمت من سرر هذا الشهر -يعني شعبان- شيئا؟ قال: لا، قال: فقال له إذا أفطرت رمضان فصم يومين) [خ 1983، م 1161] والسرر هو آخر الشهر، فالحديث يدل على أن الصيام بعد النصف من شعبان جائز.
4- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله) وفي رواية مسلم: (إلا قليلا) [خ 1970، م 1156]
القول الثالث: وهو مذهب ابن حزم، أن المحرم هو صوم يوم السادس عشر من شعبان فقط، لأن الذي جاء في بعض الروايات (إذا انتصف شعبان) وانتصافه بيوم السادس عشر، أما ما بعد السادس عشر فيجوز صومه، وهذا القول أضعف الأقوال. [المحلى 4/447]
القول الرابع: أنه يكره الصوم بعد النصف من شعبان، وهو مذهب الحنابلة جمعا بين الأدلة.
والصحيح هو قول الجمهور، وحديث أبي هريرة ضعيف كما سبق، وعلى فرض صحة الحديث فيقال: إن الصوم بعد النصف من شعبان مكروه إلا للمعتاد، لأن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (لا يتقدمن) الحديث، يدل على جواز الصيام بعد النصف من شعبان بمفهومه، والمفهوم يخفف النهي من التحريم إلى الكراهة على الصحيح من أقوال الأصوليين، وحديث أم سلمة وعمران بن الحصين وعائشة يستثني المعتاد للصيام. [انظر نثر الورود على مراقي السعود 1/306، والإلمام بشيء من أحكام الصيام ص 36، والفتح 4/129]