الأحد 22 جمادي الأولى 1446

فقه الصيام

من لا يجب عليه الصوم
الخميس 26 يناير 2023 2:00 مساءاً
597 مشاهدة
مشاركة

من لا يجب عليه الصوم 

أولا: الصغير

** لكن يأمره وليه بالصوم إذا أطاقه تمرينا له على الطاعة، وقد كان الصحابة يصومون أولادهم وهو صغار ويذهبون إلى المسجد، فيجعلون لهم اللعبة من العهن، فإذا بكوا من فقد الطعام أعطوهم اللعبة يتلهون بها.


ثانيا: المجنون 

** المجنون لا يجب عليه الصوم بالإجماع لعدم تكليفه.

** هل يلزم المجنون قضاء الأيام التي جن فيها؟ فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أنه لا يلزمه القضاء، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وهو الأقرب، لأنه غير مكلف.

القول الثاني: أنه يلزمه القضاء، وهذا القول مذهب الإمام مالك وهو رواية عن الإمام أحمد.

القول الثالث: أنه إن أفاق في الشهر قضى وإن أفاق بعده لم يقض، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد، قالوا: لأنه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل فلزمه الصيام، كما لو أفاق في جزء اليوم.


** إن نوى الصوم ليلا ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار، قد اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: وهو مذهب الجمهور أن صومه غير صحيح، لأن الصوم إمساك بنية، وهذا لا يمكن حصوله من المجنون أو المغمى عليه.

القول الثاني: وهو مذهب الحنفية أن صومه صحيح، لأنه ملحق بالنائم، وقد نوى ليلا.

وأجيب عن ذلك بأن النوم عادة لا يزيل الإحساس بالكلية فمتى نبه انتبه، بخلاف الجنون والإغماء.

والأقرب هو القول الثاني، لأنه ليس هناك دليل على البطلان، وتكفيه نيته بالليل.

ويدل لذلك أن الحنابلة قالوا: إن نوى الصوم ليلا ثم أغمي عليه فأفاق جزءا من النهار صح صومه، فهذا قد مر عليه جزء من النهار وهو مغمى عليه، وجزء وهو مفيق، فإن صححنا صيامه، فهذا يدل على أن صيامه في الوقت الذي كان مغمى عليه فيه صحيح، فيقال حينئذ: ما الفرق بين أن يفيق جزءا من النهار أو لا يفيق؟! [المبسوط 3/70، الموسوعة الكويتية 5/269]


** إن نوى الصوم ليلا وأغمي عليه، لكن أفاق في جزء النهار، ففيه خلاف:

القول الأول: أن صومه صحيح، سواء أفاق في أول النهار أو آخره، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة وهو الصحيح، لصحة إضافة الإمساك إليه، ولأن النية قد حصلت بالليل.

القول الثاني: أنه إن أفاق في أول اليوم صح صومه، وإلا فلا، وهذا مذهب المالكية والشافعية في أحد قوليه، قالوا: ليحصل حكم النية في أول النهار.


** إن طرأ عليه الجنون أو الإغماء في أثناء النهار، وكان قد نوى من الليل، فهل يفسد صومه؟ فيه خلاف:

القول الأول: أنه لا يفسد صومه إن كان الجنون قليلا، وهذا مذهب الجمهور، وهو الأقرب.

القول الثاني: أنه يفسد الصوم وإن كان الجنون قليلا، وهذا مذهب الشافعي في أحد قوليه.


** هل يقضي المغمى عليه الصوم؟

نعم، يجب على المغمى عليه قضاء الصيام، قال في المغنى: "بغير خلاف علمناه"، لكن ذكر النووي في المجموع أن لبعض الشافعية وجها بعدم وجوب القضاء على المغمى عليه، واختار ذلك صاحب الحاوي، وهو مروي عن الحسن البصري.

** النائم صومه صحيح، وإن نام جميع النهار بالاتفاق، إلا ما حكي عن أبو الطيب بن سلمة والاصطرخي من الشافعية، وهو قول ضعيف، لأن النوم لا يزيل الإحساس بالكلية، وإذا نبه انتبه.


ثالثا: الهرم 

** وهو الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه فلا يجب عليه الصوم ولا الإطعام لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه فأشبه الصبي قبل التمييز، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أخرى وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه، والصلاة كالصوم.


رابعا: العاجز عن الصيام عجزا مستمرا لا يرجى زواله 

** كالكبير والمريض مرضا لا يرجى برؤه، فلا يجب عليه الصيام لأنه لا يستطيعه وقد قال تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} لكن هل يجب عليه أن يطعم؟ فيه خلاف:

القول الأول: وهو مذهب الجمهور وهو الراجح أنه يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا، واستدلوا بما يأتي:

1- قول الله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} حيث فسرها ابن عباس بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكينا، وسيأتي تحرير الكلام في تفسيرها.

2- قول أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من أدركه الكبر فلم يستطع صيام شهر رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح" [هق 4/271، قط 2/208]

3- أطعم أنس -رضي الله عنه- بعدما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا. [خ تعليقا، كتاب التفسير، باب أياما معدودات]

القول الثاني: أنه لا يجب أن يطعم، كما لو ترك الصوم لمرض، وهذا هو مذهب المالكية والظاهرية، وهو أيضا قول للشافعية، إلا أن المالكية استحبوا الإطعام.


** اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} إلى قوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} على قولين:

القول الأول: أن قوله {وعلى الذين يطيقونه} محكمة، وليست منسوخة، وهذا قول ابن عباس -رضي الله عنهما-:

1- عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين}، قال ابن عباس: "ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا" [خ 4505]

2- قال أيوب: وسمعت عكرمة يقول عن ابن عباس: "ليست منسوخة، هي في الشيخ الذي يكلف الصيام ولا يطيقه، فيفطر ويطعم" [عبد الرزاق 4/221، وسنده صحيح، انظر شرح العمدة، كتاب الصيام 1/259]

وعلى هذا القول يكون معنى الآية: أن على الذين يشق عليهم الصيام فلا يستطيعونه فدية طعام مسكين، فتكون الآية بذلك محكمة غير منسوخة.

القول الثاني: أن قوله {وعلى الذين يطيقونه} منسوخ بقوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وهذا قول ابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة وغيرهم، وهذا طرف من الروايات الثابتة في ذلك:

1- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم أن يفطرا إن شاءا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، ثم نسخ ذلك في هذه الآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكينا" [هق 4/230، وصححه الألباني في الإرواء 4/18، وانظر شرح العمدة لابن تيمية، كتاب الصيام 1/247]

2- عن سلمة بن الأكوع قال: "لما نزلت {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" [خ 4507، م 1145] 

3- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه: "قرأ {فدية طعام مساكين} قال: هي منسوخة" [خ 1949]

وعلى هذا القول فالآية منسوخة بقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، حيث كان في أول الأمر التخيير بين الإطعام وبين الصيام، ثم ألزم الجميع بالصيام.

وبالنظر في الروايات السابقة يظهر شيء من التعارض، لأن ابن عباس أثبت نسخها مرة، ونفى نسخها أخرى، وفي نفيه للنسخ مخالفة لصحابة آخرين أثبتوا نسخ الآية، وقد اختلفت أجوبة العلماء عن هذا الإشكال على ما يأتي:

الجواب الأول: أن نفي ابن عباس للنسخ، إنما هو نفي لنسخ حكم الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، فحكمهما أنهما يفطران، وعليهما الإطعام، وإثباته للنسخ هو إثبات لنسخ الآية، وعليه فقوله {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} منسوخ بقوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، لكن ما دل عليه قوله {وعلى الذين يطيقونه} أي أن من يشق عليهم يفدون، هذا ثابت بالسنة، وليس منسوخا، فقوله (ليست منسوخة) أي حكم الإطعام [الإرواء 4/23-25] 

وهذا الجواب فيه تكلف من ناحية أن ابن عباس في مقام تفسير الآية، لا في مقام بيان حكم مأخوذ من السنة، ولهذا قال (هي في الشيخ) أي الآية، فتفسيره للآية دليل على أنها عنده غير منسوخة.

الجواب الثاني: أن المراد بالنسخ في كلام ابن عباس التخصيص، فقوله {وعلى الذين يطيقونه} عام فيمن يطيقه بجهد ومشقة، وفيمن يطيقه بغير جهد ومشقة، فخصص في حق من لا مشقة عليه، وبقي في حق من لا يطيقه إلا بجهد ومشقة، فإثباته للنسخ هو إثبات للتخصيص، ونفيه له هو نفيه لتخصيص الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، أو نفي للنسخ الكلي للآية، ولهذا قال في رواية البيهقي: "رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم أن يفطرا إن شاءا ويطعما مكان كل يوم مسكينا"، وهذا عام للمطيق مع المشقة، والمطيق بدون مشقة، أي يطعم عن كل يوم مسكينا، ثم قال: "ثم نسخ ذلك في هذه الآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}" وهذا تخصيص، وقد بين ما بقي بعد التخصيص بقوله: "وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم والحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكينا " وأطلق عليهما أنهما لا يطيقان، لأن من يطيق بجهد ومشقة كمن لا يطيق، لأن الشريعة جاءت بنفي الحرج. [انظر شرح العمدة لابن تيمية، كتاب الصيام 1/264] 

الجواب الثالث: أن في الآية نسخا من وجه، وهو أنه في أول فرض الصيام أوجب الله على الناس أحد أمرين، الصيام أو الإطعام، فمن كان قادرا على أحدهما فهو مأمور بما قدر عليه، فمن كان إذ ذاك يقدر على الصيام دون الإطعام، لزمه الصيام، ومن كان إذ ذاك يقدر على الإطعام دون الصيام، لزمه الإطعام، ومن قدر عليهما معا، خير بينهما، ثم نسخ الله تعالى التخيير، فمن كان مخيرا من قبل لزمه الصيام، ولا يجزئه الإطعام، أما من كان فرضه الصيام لعدم قدرته على الإطعام ومن كان فرضه الإطعام لعدم قدرته على الصيام فلا نسخ في حقه، وعليه فإثبات ابن عباس للنسخ هو إثبات لنسخ التخيير، ونفيه للنسخ هو نفي لنسخ حكم من كان فرضه أحد الأمرين، وهذا الجواب أوضح الأجوبة، والله أعلم. [انظر شرح العمدة لابن تيمية، كتاب الصيام 1/264، 266]


** للإطعام كيفيتان: 

الأولى: التمليك، بأن يعطي المسكين طعاما.

الثانية: أن يغدي المساكين أو يعشيهم، وقد اختلف العلماء في هذه الكيفية:

القول الأول: أنه لا يجزئه ذلك، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.

القول الثاني: أنه يجزئه، وهذا مذهب الحنفية والمالكية واختيار شيخ الإسلام، وهذا هو الراجح، لعموم قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}، وقد فعل ذلك أنس رضي الله عنه لما كبر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كفارة اليمين: "وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا أو أدما من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم، وهو أظهر القولين في الدليل، فإن الله تعالى أمر بالإطعام لم يوجب التمليك، وهذا إطعام حقيقة، ومن أوجب التمليك احتج بحجتين: 

إحداهما: أن الطعام الواجب مقدر بالشرع، ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه.

والثانية: أنه بالتمليك يتمكن من التصرف الذي لا يمكنه مع الإطعام. 

وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع، وإن قدر أنه مقدر به فالكلام إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداه وعشاه، وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر. 

وأما التصرف بما شاء، فالله تعالى لم يوجب ذلك، إنما أوجب الإطعام، ولو أراد ذلك لأوجب مالا من النقد ونحوه، وهو لم يوجب ذلك" [الفتاوى الكبرى 4/201].


** إطعام مسكين واحد لمدة ثلاثين يوما، أو بعدد الأيام التي وجبت عليه جائز عند الشافعية والحنابلة وجماعة من المالكية، وهو رواية عن أبي حنيفة. 

ونص الإمام مالك على عدم جواز ذلك، واستدل من قال بالجواز بأن كل يوم عبادة مستقلة. [التاج والإكليل 3/387، الإنصاف 3/291، حاشية الدسوقي 1/538، مغني المحتاج 2/177، رد المحتار 2/427]


** ما كمية الطعام التي يفدي بها؟ فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أنه يطعم مدا من بر أو نصف صاع من غيره، وهذا هو مذهب الحنابلة، قالوا: لأن مد البر يساوي نصف الصاع من غيره لأن البر أطيب وأغلى في نفوس الناس.

القول الثاني: أن يطعم نصف صاع من البر أو صاع من غيره، وهذا مذهب الحنفية.

القول الثالث: أنه يطعم مدا من طعام لكل مسكين، وهذا مذهب المالكية والشافعية.

القول الرابع: أن ذلك راجع إلى العرف، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الراجح.

قال رحمه الله في كلامه عن كفارة اليمين: "والقول الثاني: أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع، فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا، وهذا معنى قول مالك، قال إسماعيل بن إسحاق: كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة، قال مالك: وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم لقول الله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم} وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا، والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول" [الفتاوى الكبرى 4/198] 


** ما هو جنس المطعم؟ فيه خلاف بين العلماء:

فالمذهب أن جنس المطعم هنا هو جنس المطعم في الكفارة، وهو مد من بر، أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو أقط أو شعير، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو الأقرب- أنه يخرج من أوسط ما يطعم أهله، لقوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم}. 


** وقت الإطعام بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم، لكن لا يقدم الإطعام لأن تقديم الفدية كتقديم الصيام.


** إن عجز عن الإطعام فهل يتعلق ذلك في ذمته أم يسقط عنه؟ فيه خلاف:

القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه يتعلق في ذمته فإذا قدر فيجب عليه أن يبرئها بالإطعام. 

القول الثاني: وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة وهو الوجه الثاني في المذهب أنه يسقط عنه، وهو الراجح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر من جامع امرأته في نهار رمضان بالكفارة إذا قدر عليها بل أسقطها عنه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والشارع متشوق إلى عدم إشغال الذمة بخلاف حقوق الآدمي، أما هذه فهي حقوق الله فأسقطها سبحانه. 

** قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: "وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه لكبره ونحوه أو عن ميت وهما معسران توجه جوازه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة من المال، وحكى القاضي في صوم النذر في حياة الناذر نحو ذلك" [الفتاوى الكبرى 5/377]


** إذا سافر من لا يستطيع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، ففيه خلاف:

القول الأول: أنه لا صوم عليه ولا فدية ولا قضاء، لأن الصوم يسقط بالسفر، وهو مذهب الحنابلة.

القول الثاني: أنه لا تسقط عنه الفدية، لأنه لم يكن الصوم واجبا في حقه أصلا وإنما الواجب عليه الفدية، فالفدية لا فرق فيها بين السفر والحضر. [دقائق أولي النهى 1/475]


خامسا: المسافر 

** وذلك إذا لم يقصد بسفره التحيل على الفطر يجوز له الفطر، واختلفوا فيما لو صام المسافر، فذهب الظاهرية وبعض أهل القياس إلى أنه لا يصح صومه، واحتجوا بظاهر قوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ولكن هذا القول ضعيف والمراد بالآية فعدة من أيام أخر إن أفطر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام في سفره في رمضان، وثبت أن الصحابة كانوا يصومون في سفرهم في رمضان فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم [م 1118].


** هل الأفضل للمسافر أن يصوم أم يفطر؟ الجواب في هذا تفصيل:

الحال الأولى: إذا كان الفطر والصوم سواء بالنسبة له، ففيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أن الصوم أفضل، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الأقرب، واستدلوا بما يأتي: 

1- أن هذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: (خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، ولا فينا صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة) [خ 1945، م 1122]

2- أنه أسرع في إبراء الذمة.

3- أنه أسهل على المكلف غالبا لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل.

4- حتى يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان.

القول الثاني: أن الفطر أفضل، وهذا هو مذهب الحنابلة، واستدلوا بما يأتي:

1- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر) [خ 1946، م 1115] قالوا: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وأجيب عنه بأنه قد ورد على سبب معين، وهنا السبب معتبر، لأنه قد جاءت أحاديث أخرى بصوم النبي صلى الله عليه وسلم، وبصوم الصحابة في السفر، فيجمع بينها بتعليق حديث جابر بسببه، ومما يدل على صوم الصحابة في السفر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن) [م 1116] 

2- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) [م 1121] فقال في الفطر: (فحسن)، وقال في الصيام (فلا جناح عليه) وهذا ترجيح للفطر على الصوم.

وأجيب عنه بأنه ليس فيه ترجيح، ولهذا جاء في رواية الصحيحين عن عائشة: (أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) [خ 1943، م 1211].

القول الثالث: أن الصيام في السفر محرم أبدا، ولا يصح، وهذا مذهب ابن حزم، لقوله تعالى {فعدة من أيام أخرى}، وهذا القول ضعيف، لثبوت السنة بجواز الصيام، ولأن تقدير الآية: فأفطر فعدة من أيام أخر.

القول الرابع: التخيير مطلقا بين الصوم وبين الإفطار. [الفتح 4/183] 

الحال الثانية: إذا كان يشق عليه الصوم مشقة محتملة، والفطر أرفق به، فالفطر أفضل، والصوم في حقه مكروه، لأنه خروج عن رخصة الله وتعذيب لنفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) [حم 5832، خز، حب 6/451، من حديث ابن عمر، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط إسناده قوي] وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) [حب 2/69، وقال المحقق: إسناده صحيح] 


الحال الثالثة: إذا كان يشق عليه الصوم مشقة غير محتملة فيحرم عليه الصوم لما يأتي:

1- حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُراع الغَميم –اسم واد أمام عٌسفان-، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة) [م 1114] لأنهم صاموا مع المشقة الشديدة. 

2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر) [خ 1946، م 1115] 


** إن سافر في أثناء النهار فهل له الفطر؟ اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: أنه ليس له الفطر لأنه شرع في صيام واجب فلزمه إتمامه كما لو شرع في القضاء، وكما لو شرع في صلاة الحضر ثم سافر في إثنائها، وهذا هو مذهب الجمهور.

القول الثاني: أن له الفطر، وهو الصحيح لدلالة السنة عليه والآثار عن الصحابة في ذلك، وقد سبق حديث جابر في مسلم في قصة عام الفتح، وهذا هو مذهب الحنابلة، وهو القول الراجح.


** وهل يشترط أن يفارق قريته؟

القول الأول: أنه يشترط أن يفارق قريته، وهذا مذهب الحنابلة، قالوا: لأنه لم يكن الآن على سفر، ولكنه ناو للسفر، ولأنه لا يجوز له القصر حتى يخرج من البلد فكذلك لا يجوز له الفطر.

القول الثاني: أن له الفطر وإن لم يخرج، وبه قال الحسن وعطاء، واختاره ابن القيم في زاد المعاد، واستدلوا بما يأتي:

1- عن محمد بن كعب أنه قال: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا، وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له سنة؟ قال: سنة ثم ركب" [ت 799، وصححه الألباني] 

والجواب عنه أنه يحتمل أن قوله: سنة، أي الفطر قبل مفارقة البلدة، ويحتمل أن قوله سنة: أي الفطر في السفر، ويكون إفطاره قبل مفارقته لبلده من اجتهاده، ويحتمل أنه أفطر بعد غروب الشمس لأنه في رواية عن محمد بن كعب قال: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر، وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب، فقلت له سنة؟ قال: نعم" [هق 4/247، قط 2/187]، فوقع فطره بعد غروب الشمس، فيكون قوله: سنة، أي تعجيل الفطر، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.

2- عن جعفر بن جبر قال: "كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع ثم قرب غداه، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال اقترب، قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" [حم 23337، 26691، د 2412، وصححه الألباني] 

والجواب عن هذا أن قوله "فلم يجاوز البيوت" أي بالنظر، أما هو فقد جاوز البيوت ببدنه، ويدل لذلك رواية أحمد "والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد"، أي غيابها عن النظر بالكلية.

والراجح هو القول الأول، لما استدلوا به، ولأننا نقول: إن هذا الذي أفطر قبل مفارقته لبلده، وقد نوى السفر قد يتعطل سفره قبل مفارقته لبلدته، فيكون حينئذ قد أفطر بدون مسوغ شرعي، لأن الشارع إنما أباح الفطر لمن سافر، لا لمن نوى السفر. [زاد المعاد 2/56]


سادسا: المريض الذي يرجى برؤ مرضه 

** وله ثلاث حالات:

أحدهاأن لا يشق عليه الصوم ولا يضره فيجب عليه الصوم لأنه ليس له عذر يبيح الفطر، كمن به صداع يسير، أو وجع ضرس، وإن خالف في وجوب الصوم عليه بعض العلماء أخذا بعموم الآية، لكم لا يسلم هذا، لأن اليسير ملحق بالعدم.

الثانيةأن يشق عليه الصوم ولا يضره، فيفطر لقوله تعالى {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} ويكره له الصوم مع المشقة لأنه خروج عن الرخصة، وتعذيب لنفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) [سبق تخريجه] 

الثالثةأن يضره الصوم فيجب عليه الفطر ويحرم عليه الصوم لقوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن لنفسك عليك حقا)، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار) [السلسلة الصحيحة 250]

ومقياس الضرر يكون بالحس وبالخبر، أما بالحس فأن يشعر المريض بنفسه أن الصوم يضره ويثير الأوجاع عليه ويوجب تأخر البرء وما أشبه ذلك، وأما الخبر فأن يخبره طبيب عالم ثقة بذلك، ولا يشترط أن يكون الطبيب مسلما، لأن العبرة بكونه ثقة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وثق في كافر في أعظم حالات الخطر وذلك حين هاجر من مكة إلى المدينة فاستأجر رجلا من المشركين ليدله على الطريق.

** والمريض الذي يرجى برؤه إن أفطر فإنه يقضي باتفاق الأئمة، ولا فدية عليه.


سابعا: الحائض 

** فيحرم عليها الصوم، والنفساء كالحائض، ويجب عليهما القضاء.


ثامنا: الحامل والمرضع 

** الحامل والمرضع لهما أحوال:


الحال الأولى: أن تفطرا خوفا على نفسيهما، فلا يجب عليهما فدية بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن قدامة في المغني، والنووي في المجموع، قال في المغني: "لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا"، لكن قال في الإنصاف: "وذكر بعضهم رواية بالإطعام، قال الزركشي: هو نص أحمد في رواية الميموني وصالح، وذكره وتأوله القاضي على خوفها على ولدها، وهو بعيد" [الإنصاف 3/290]، والذي يظهر أن تلك الرواية خطأ، فلم يذكرها غيره في كتب المذهب، ثم اختلف العلماء في وجوب القضاء عليها على قولين: 

القول الأول: أنه يجب عليهما القضاء، وهذا مذهب الجمهور، واستدلوا بما يأتي:

1- قوله تعالى {فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فمع أن المريض والمسافر مفطران بعذر لم يسقط القضاء، فعدم سقوطه عمن أفطرت لمجرد الراحة من باب أولى.

2- آثار الصحابة في وجوب القضاء كما ورد ذلك عن ابن عمر [هق 4/230] وابن عباس [مصنف عبد الرزاق 4/218] 

3- أنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه.

القول الثاني: أنه لا يجب عليهما القضاء، وهذا قول سعيد بن المسيب إسحاق، وهو مذهب ابن حزم، واستدلوا بما يأتي:

1- حديث: (إن الله وضع الصيام عن الحبلى والمرضع) 

وأجيب عنه بأن المراد أن الله وضع عنهما وجوب أدائه وعليهما القضاء، ويدل لذلك أن لفظ الحديث عند الترمذي: (إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل أو المرضع الصوم) [ت 715، وقال الألباني: حسن صحيح] 

ولفظ أحمد وابن ماجة: (إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم) [حم 18568، جه 1667، وقال الألباني: حسن صحيح] 

فقرن بين المسافر والحامل والمرضع، ومن المعلوم أن المسافر قد وضع عنه الأداء لا القضاء فكذلك الحامل والمرضع.

2- قول ابن عباس في قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} " كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا" [د 2318، هق 4/230، وحسنه النووي في المجموع، وقال الألباني: شاذ] ولم يذكر ابن عباس أن عليهما القضاء.

وأجيب عنه بأن هذا فيمن أفطرت خوفا على ولدها فقط دون نفسها، وعلى فرض أنه عام فإن ابن عباس لم يذكر القضاء لكونه معلوما من أدلة أخرى.

والراجح هو القول الأول، وأنه يجب عليهما القضاء دون الفدية.


الحال الثانية: أن تفطرا خوفا على نفسيهما وولديهما، فيجوز لهما الإفطار، ويجب عليهما القضاء، دون الإطعام، وفي وجوب القضاء عليهم الخلاف السابق.


الحال الثالثة: أن تفطرا خوفا على ولديهما، ومعنى خوف المرأة على ولدها أن تخاف هلاكه، أو أذى شديد يلحق به، أو مرضا يلحق به، ومثله إذا خافت أن يضر بلبنها الإضرار البين، أما ما كان من ذلك محتملا فلا تفطر لأن الصوم قد ينتقص به بعض اللبن ولكنه نقصان محتمل. [الأم 2/113، شرح خليل للخرشي 2/261]

وفي القضاء والإطعام عليهما خلاف بين العلماء: 

القول الأول: أنهما يقضيان ويطعمان، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، أما القضاء فظاهر؛ لأن الله تعالى فرض الصيام على كل مسلم، وقال في المريض والمسافر {فعدة من أيام أخر}، فمع أن المريض والمسافر مفطران بعذر لم يسقط القضاء، فعدم سقوطه عمن أفطرت لمجرد الراحة من باب أولى.

وأما الإطعام فلقول ابن عباس في قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} " كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا " [د 2318، هق 4/230، وحسنه النووي في المجموع، وقال الألباني: شاذ] ومع أن ابن عباس لم يذكر القضاء لكنه معلوم من أدلة أخرى، والإطعام على مذهب الحنابلة واجب على من تلزمه النفقة، فإذا كان الأب موجودا فالذي يطعم هو الأب.

القول الثاني: أنهما يقضيان ولا يطعمان، وهذا مذهب الحنفية وهو رواية عن مالك، ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بأن غاية ما يكون أنهما كالمريض والمسافر فيلزمهما القضاء فقط، ويدل على أنهما كالمسافر حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم) [حم 18568، جه 1667، وقال الألباني: حسن صحيح] ومن المعلوم أن المسافر قد وضع عنه الأداء لا القضاء فكذلك الحامل والمرضع، ففي الحديث إشارة إلى أن الحامل والمرضع حكمهما حكم المسافر.

القول الثالث: أنهما يقضيان، وتطعم المرضع دون الحامل، وهذا القول رواية عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل، ولأن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها، ولأن الحامل أفطرت لمعنى فيها، فهي كالمريض، والمرضع أفطرت لمعنى منفصل عنها فوجب عليها الفدية.

القول الرابع: أنهما يطعمان ولا يقضيان، وهذا قول بعض السلف كابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير، واستدلوا بحديث: (إن الله وضع الصيام عن الحبلى والمرضع)، وهذا يدل على سقوط الصيام عنهما، وأما وجوب الإطعام فلأثر ابن عباس السابق.

وأجيب عنه بأن المراد أن الله وضع عنهما وجوب أدائه وعليهما القضاء، ويدل لذلك أن لفظ الحديث عند الترمذي: (إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم) [ت 715، وقال الألباني: حسن صحيح] ولفظ أحمد وابن ماجة: (إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم) [حم 18568، جه 1667، وقال الألباني: حسن صحيح] فقرن بين المسافر والحامل والمرضع، ومن المعلوم أن المسافر قد وضع عنه الأداء لا القضاء فكذلك الحامل والمرضع، وهذه دلالة اقتران، وقد ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد أن دلالة الاقتران ثلاثة أنواع: 

الأولى: قوية: إذا جمع بين المقترنين لفظ اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله، كقوله: (حق على كل مسلم الغسل يوم الجمعة والسواك ويمس من طيب إن وجد) فقد اشترك الثلاثة في إطلاق لفظ الحق عليه، فإذا كان السواك والتطيب مستحبين كان الثالث كذلك.

الثانية: ضعيفة: عند تعدد الجمل واستقلال كل واحدة منها بنفسها، كقوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة) إذ إن كل جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها وغايتها، وهما جملتان منفصلتان.

الثالثة: التساوي حيث كان العطف ظاهرا في التسوية وكان قصد المتكلم ظاهرا في الفرق، فيتعارض هنا ظاهر اللفظ وظاهر القصد فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر وإلا طلب الترجيح.

القول الخامس: أنهما مخيرتان بين القضاء والإطعام، وهذا قول إسحاق.

والقول الراجح في هذه المسألة هو القول الثاني، وأنهما يقضيان ولا يطعمان، وهذا هو ظاهر السنة، وظاهر قوله تعالى {فعدة من أيام أخر}، أما أثر ابن عباس في إيجاب الفدية على من خافت على ولدها فإما أن يقال إنه ضعيف، أو أنه اجتهاد منه خالف فيه ظاهر القرآن وظاهر السنة، فلا يؤخذ به، والله أعلم.

** الظئر وهي المرضعة لغيرها لها حكم الأم في إباحة الفطر ووجوب القضاء. 


تاسعا: من احتاج للفطر لدفع ضرورة 

** مثل إنقاذ معصوم من غرق أو حريق أو هدم ونحوه، فإذا كان لا يمكنه إنقاذه إلا بالتقوي عليه بالأكل والشرب جاز له الفطر، بل وجب الفطر حينئذ لأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويلزمه قضاء ما أفطره.

ومثل ذلك من ذهب في طلب تائه من مال أو إنسان فاشتد به العطش فله الفطر، ومثله ما قاله الآجري: من صنعته شاقة وتضرر بتركها وخاف تلفا أفطر وقضى.

ومثله الحصّاد إذا لم يقدر على الحصاد مع الصوم، ويهلك الزرع بالتأخير، وكذا البناء ونحوه إذا خاف على المال إن صام وتعذر العمل ليلا.

ومثل ذلك من احتاج إلى الفطر للتقوي على الجهاد في سبيل الله فإنه يفطر ويقضي، سواء كان ذلك في السفر أم في الحضر، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، خلافا للمشهور عند الحنابلة.

ويدل لاختيار شيخ الإسلام حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة ونحن صيام قال فنزلنا منزلا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال، إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا) [م 1120]

ففي هذا الحديث إشارة إلى أن القوة على القتال سبب مستقل غير السفر، وتعليل الفطر في الحديث بالسفر هو إهمال للوصف الموجود، واعتبار للوصف المفقود، ومما يدل على جواز الفطر في الجهاد أنه إذا جاز الفطر لمطلق السفر، فجوازه في حال القتال من باب أولى، لأن الفطر في السفر إنما هو لتحصيل القوة للمسافر وحده، والفطر في حال القتال تحصل به القوة للمسلمين عموما، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، والمصلحة الحاصلة من الفطر في الجهاد أعظم من المصلحة الحاصلة من الفطر في مطلق السفر، ولأن الله تعالى قال {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} والفطر من أعظم أسباب القوة . [زاد المعاد 2/53]

** كل من جاز له الفطر بسبب مما تقدم فإنه لا ينكر عليه إعلان فطره إذا كان سببه ظاهرا كالمريض والكبير الذي لا يستطيع الصوم، وأما إذا كان سبب الفطر خفيا كالحائض ومن أنقذ معصوما من الهلكة فإنه يفطر سرا ولا يعلن لئلا يجر التهمة إلى نفسه ولئلا يغتر به الجاهل فيظن أن الفطر جائز بدون عذر.