الجمعة 20 جمادي الأولى 1446
المفسد السادس: إنزال المني باختياره
الخميس 26 يناير 2023 2:00 مساءاً
513 مشاهدة
مشاركة

المفسد السادس: إنزال المني باختياره.

** اختلف العلماء في إنزال المني في الصيام سواء أكان بتقبيل أو لمس أو استمناء على قولين:

القول الأول: وهو قول الأئمة الأربعة، وهو الصحيح، بل ذكره صاحب الحاوي وغيره إجماعا، أن الصيام يفسد بذلك، واستدلوا بما يأتي:

1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك) [خ 1894، م 1151] وخروج المني شهوة، كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟) الحديث [م 1006] 

2- أن الحجامة والقيء عمدا يفطران، والعلة في كونهما مفطران أن الحجامة توجب خروج الدم وخروج الدم يضعف البدن، وكذلك القيء عمدا يضعف البدن، فيقاس عليه الاستمناء لأن خروج المني يضعف البدن ولهذا وجب على الإنسان الغسل ليرفع جنابته وليعود له النشاط.

وقد يجاب عن هذا بأن ما سبق مجرد حكمة لا علة. 

القول الثاني: وهو قول لبعض الحنفية وبعض الحنابلة وهو قول الظاهرية أنه لا يفسد صومه، واستدلوا بعدم الدليل على الإفساد. [المجموع شرح المهذب 6/349]

** اختلف العلماء في التقبيل للصائم بدون إنزال على أقوال: 

القول الأول: أن القبلة مباحة مطلقا، ولا فرق بين الشاب والشيخ، قال الحافظ في الفتح: "وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة -رضي الله عنه-"، واستدلوا بما يأتي:

1- عن عائشة-رضي الله عنها-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه) [خ 1927، م 1106] 

2- عن عمر بن أبي سلمة -رضي الله عنه- أنه: (سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أيقبل الصائم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: سل هذه -يعني أم سلمة-، فأخبرته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصنع ذلك، فقال يا رسول الله: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له) [م 1108] 

3- قال عمر بن الخطاب: (هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فمه) [حم 139، د 2385، وصححه الألباني] 

القول الثاني: أن القبلة مكروهة لمن حركت شهوته، ولا تكره لغيره، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-: (أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب) [حم 6700، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، د 2387 من حديث أبي هريرة] ووجه الدلالة أنه ليس المقصود من الحديث خصوص الشيخ وخصوص الشاب، وإنما كانت القبلة من الشاب مظنة لتحرك شهوته فنهاه بخلاف الشيخ. 

والحديث أشار الحافظ إلى ضعفه، وضعفه ابن القيم، وابن حزم، والشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند، وقال النووي في المجموع: "إسناده جيد"، وحسن إسناده ابن مفلح في الفروع، وصححه الألباني، وقال الطريفي: "الحديث منكر، تفرد به أبو العنبس وهو مجهول لا يعرف".

قلت: ويحتمل أن في متنه نكارة، لأن عمر بن أبي سلمة كان شابا جدا عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال ابن حزم، وقد أباح النبي -صلى الله عليه وسلم- له التقبيل كما سبق عند مسلم، وعائشة -رضي الله عنها- كان لها عند وفاته -صلى الله عليه وسلم- ثماني عشرة سنة، فهي شابة، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقبلها وهو صائم، وهذا يخالف الحديث السابق.

القول الثالث: أن القبلة مباحة إن أمن على نفسه الوقوع في الجماع أو الإنزال، أما إن لم يأمن فتكره، وهذا مذهب الحنفية، وظاهر كلامهم أن الكراهة في حال عدم الأمن كراهة تنزيهية. 

القول الرابع: أن القبلة مكروهة للصائم مطلقا، وهذا مذهب طائفة من الصحابة والسلف، وهو المنقول عن عمر -رضي الله عنه-، وهو مذهب المالكية.

القول الخامس: أنها مستحبة، وهذا مذهب ابن حزم، وهو قول ضعيف.

القول السادس: التفريق بين الشيخ والشاب، فتكره للشاب دون الشيخ، وهذا القول حكاه ابن المنذر عن طائفة، ونسب إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، واستدلوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- السابق.

القول السابع: أن القبلة تفسد الصوم، وهذا القول محكي عن سعيد بن المسيب، ومحمد بن الحنفية، وابن شبرمة، ومن أدلتهم حديث ميمونة - مولاة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها - قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان، قال: قد أفطرا) [حم 27078، جه 1686] 

وأجيب عنه بأن الحديث ضعيف، فيه أبو يزيد الضني، قال الدارقطني: ليس بمعروف، وقال البخاري: هذا لا أحدث به، هذا حديث منكر، وضعفه ابن القيم، والنووي في المجموع، وقال الألباني: "ضعيف جدا"، وضعفه الشيخ شعيب الأرنؤوط. 

القول الثامن: أنها محرمة، واستدلوا بقوله تعالى {فالآن باشروهن} فمنع من المباشرة نهارا. 

وأجيب عنه بأن المقصود بالمباشرة في الآية الجماع، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- باشر بما دون الجماع.

والراجح أن القبلة للصائم مباحة إن أمن الوقوع في الجامع والإنزال، أما إن لم يأمن فتحرم سدا للذريعة وصونا لصيامه عن الفساد.

[المبسوط 3/58، المحلى 4/340، الفتح 4/150، زاد المعاد 2/58 - 59، الصحيحة 4/138، المجموع 6/396، الفروع 3/63، طرح التثريب 4/135، نيل الأوطار 4/250]

** الإنزال بالاحتلام أو بالتفكير المجرد عن العمل لا يفسد الصيام، لأن الاحتلام بغير اختيار الصائم، وأما التفكير فمعفو عنه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) [خ 5269، م 127].

** إن نظر فأنزل منيا ففيه تفصيل، إن كانت النظرة الأولى، فلا يفسد صومه لأن النظرة الأولى له، ولأن بعض الناس يكون شديد الشهوة بحيث إذا نظر إلى امرأته نظرة واحدة أنزل، ففي إبطال صيامه مشقة شديدة، وإن كرر النظر فأنزل فسد صومه.

** إن طلع عليه الفجر وهو جنب، ففيه خلاف بين العلماء على أقوال: 

القول الأول: وهو مذهب الجمهور أن صيامه صحيح، ودليل ذلك ما يأتي:

1- قول الله تعالى {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، فدلت الآية على إباحة الوقاع في كل أجزاء الليل، ويفهم منه بدلالة الالتزام إباحة الإصباح جنبا.

2- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (قد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم) [خ 1926، م 1109] 

3- عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضي) [م 1109]

القول الثاني: وهو مروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- والحسن البصري، أن صيامه غير صحيح، ودليل هذا القول حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ) [حم 26362، وصححه أحمد شاكر]

القول الثالث: وهو قول عروة بن الزبير، أنه إن أخر الغسل لغير عذر، بطل صيام ذلك اليوم.

القول الرابع: وهو قول إبراهيم النخعي أنه يصح في النفل دون الفرض.

وهنا تعارض حديثا عائشة وأم سلمة مع حديث أبي هريرة -رضي الله عنهم-، وللعلماء مع هذا التعارض مسلكي الجمع والترجيح، وقال بعضهم بالنسخ أيضا:

أولا: مسلك الجمع، وقد سلكوا مسلك الجمع من وجوه:

1- أن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- من باب الإرشاد إلى الأفضل، فإن قيل كيف يكون أفضل ولم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان الجواز.

2- أن حديث عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في حق أمته، فيكون من باب الخصائص النبوية، وهذا القول ضعيف، لأن الخصائص النبوية لا تثبت إلا بالدليل الواضح الصريح والأصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة.

3- أن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- محمول على من أدركه الفجر وهو مجامع فلم ينزع.

ثانيا: مسلك الترجيح، حيث رجحوا حديثي عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- لما يأتي: 

1- أن رواية الاثنين مقدمة على رواية الواحد، لا سيما وهما زوجتا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهما أعلم بذلك من غيرهما من الرجال.

2- أن حديث عائشة وأم سلمة موافق لظاهر القرآن.

3- أن حديثهما موافق للنظر، فإن المحرم هو الجماع في الصوم، أما كون حكم الجنابة باقيا فإن هذا لا يؤثر، بدليل أنه لو احتلم أثناء النهار لم يفسد صومه وإن أخر الغسل.

4- أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قد رجع عن قوله، فعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث قال: "سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقص يقول في قصصه من أدركه الفجر جنبا فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث -يعني أباه- فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم، فجئنا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال هما أعلم، فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك" [م 1009] 

5- أن حديثهما أثبت سندا، فإن بعض العلماء كابن عبد البر ذكر أن هذا المعنى من المتواتر، أما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي به، وجاء في بعض الروايات رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. [موسوعة الطهارة للدبيان، الغسل: 305]

** إن أمذى الصائم ففيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أن صيامه يفسد، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة.

القول الثاني: أن صيامه لا يفسد، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام، واستظهره في الفروع [الفروع 3/50]، وقياس خروج المذي على خروج المني قياس مع الفارق ولا دليل على إفساده للصوم والأصل عدم الفساد.