القول الأول: وهو مذهب الجمهور أنه مكروه، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده) [خ 1985، م 1144]
2- عن جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري) [خ 1986]
3- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) [م 1144]
وهذا الحديث من الأحاديث التي تتبعها الإمام الدارقطني على الإمام مسلم، وقال: هذا لا يصح عن أبي هريرة، وإنما رواه ابن سيرين عن أبي الدرداء مرسلا؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من أبي الدرداء. [علل ابن أبي حاتم 1/198، علل الدارقطني 8/128، 10/42، الإلزامات والتتبع ص201]
القول الثاني: وهو مذهب الحنفية والمالكية أنه جائز، واستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام وقلما كان يفطر يوم الجمعة) [ت 742، وصححه ابن عبد البر وابن خزيمة، وذكر الدارقطني الاختلاف في رفعه ووقفه، وصحح رفعه كما في كتاب العلل 5/59، وحسنه الألباني]
وأجيب عنه بعدة أجوبة منها:
الأول: أن هذا الحديث يدل على أن النهي في الأحاديث السابقة للكراهة.
الثاني: أنه محمول على صيام يوم قبله أو بعده.
الثالث: أنه كان يصوم يوم الجمعة منفردا إذا صادف أياما كان يصومها. [انظر زاد المعاد 2/86]
القول الثالث: وهو مذهب الظاهرية ونقله في الإنصاف عن شيخ الإسلام أنه محرم، وظاهر كلامه في الفتاوى الكبرى أنه يقول بالكراهة، واستدلوا بالأحاديث التي استدل بها الجمهور.
واستثنى ابن حزم من كان يصوم صيام داود، فإن له إفراد يوم الجمعة بصيام. [الإنصاف 3/347، الفتاوى الكبرى 6/180، المحلى 4/440]
والصحيح هو القول الأول، ولم نقل بحرمة إفراد يوم الجمعة بالصوم لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أن أفضل الصيام هو صيام داود وهو صوم يوم وإفطار يوم، وهذا بلا شك يستلزم إفراد يوم الجمعة، ويؤيده حديث ابن مسعود الذي استدل به الحنفية والمالكية.
** إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة أو نحو ذلك من الصيام المستحب، جاز إفراد يوم الجمعة بلا كراهة، وقد سبق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) [م 1144، سبق كلام الدارقطني في إعلاله]
وقد نقل الأثرم عن الإمام أحمد أنه قيل له: "صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد، ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه، وأما أن يفرد فلا. قال: قلت: رجل كان يصوم يوما ويفطر يوما، فوقع فطره يوم الخميس، وصومه يوم الجمعة، وفطره يوم السبت، فصام الجمعة مفردا؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة، إنما كره أن يتعمد الجمعة" [المغني 3/170، الفروع 5/308]
** من لم يقصد تخصيص يوم الجمعة بالصوم مثل العامل الذي لا يستطيع الصوم إلا يوم الجمعة، هل يكره له صومه؟
الجواب: فيه احتمال والأقوى أنه لا بأس بصومه، لما رواه مسلم: (لا تخصوا) وهذا لم يخصصه، وإن كان ظاهر حديث جويرية بنت الحارث يدل على أنه يكره إفراده وإن كان في الأيام الأخرى لا يستطيع، لكن يجاب عنه بأن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أصمت أمس؟) وقوله: (أتصومين غدا؟) يدل على أنها قادرة على الصوم.
** الحكمة في النهي عن إفراد يوم الجمعة بصيام أمور، منها:
أولا: حتى يتقوى العبد على الصلاة والذكر، ولكن يشكل على هذه الحكمة أن الكراهة تزول بصيام يوم قبله أو يوم بعده.
ثانيا:
أنه يوم عيد، فكره صيامه، وأورد على هذه الحكمة إشكالان، أحدهما أن صومه ليس بحرام وصوم يوم العيد حرام، والثاني أن الكراهة تزول بعدم إفراده، وأجيب عن ذلك بأنه ليس عيد العام بل عيد الأسبوع والتحريم إنما هو لصوم عيد العام، وأما إذا صام يوما قبله أو يوما بعده فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة وعيدا فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه. [انظر زاد المعاد 1/419، 2/86]