** اختلف العلماء في اشتراط مسجد الجماعة في الاعتكاف على أقوال:
القول الأول: أنه لا يصح إلا في مسجد جماعة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وقال شيخ الإسلام:"وهو قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه، إلا من قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة، أو مسجد نبي" [شرح العمدة 2/734]، واختلفوا في تفسير مسجد الجماعة فعن أبي حنيفة وهو المذهب عند الحنابلة: أنه الذي تقام فيه صلاة الجماعة، والرأي الثاني عند الحنفية أن المراد ماله إمام ومؤذن أديت فيه الخمس أو لا، واستثنى الحنابلة من هذا الشرط من لا تجب عليه الجماعة كالمريض ونحوه من أهل الأعذار، وكذا لو نوى اعتكاف مدة لا تخللها صلاة جماعة فيصح في كل مسجد سوى مسجد البيت، واستدلوا بما يأتي:
1- عموم قوله تعالى {وأنتم عاكفون في المساجد}، وخص بالمسجد الذي تقام فيه الجماعة للأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة؛ لأن اعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه، وحتى لو قيل: بعدم وجوب الجماعة، فإن الجماعة من أعظم العبادات، وهي أوكد من مجرد الاعتكاف الخالي عنها بلا ريب، والمداومة على تركها مكروه كراهة شديدة.
2- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" [د 2473، وقال الألباني: حسن صحيح] وقد سبق بيان أن هذا الحديث ليس من كلام عائشة - رضي الله عنها -
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الصلوات" [أخرجه عبد الله بن أحمد في مسائله عن أبيه 2/673، وإسناده صحيح]، وعنه قال: "إن أبغض الأمور إلى الله البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور" [هق 4/316، وإسناده صحيح، قيام الليل للألباني ص36]، وعنه أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها في بيتها؟ فقال: "بدعة وأبغض الأعمال إلى الله تعالى البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة" [عزاه ابن مفلح في الفروع 3/156 لحرب في مسائله وقال: "بإسناد جيد"]
القول الثاني: أنه يصح في كل مسجد، وهو مذهب الشافعية والمالكية، سواء أقيمت فيه الجماعة أم لا، إلا أنهم يستثنون مساجد البيوت، فلا يصح فيها الاعتكاف، واستثنى المالكية ما إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة، فيجب الاعتكاف في المسجد الجامع حينئذ، وقال الشافعية يجب الاعتكاف في الجامع إن تخلل اعتكافه جمعة، وكان نذرا متتابعا، واستدلوا بعموم قوله تعالى {وأنتم عاكفون في المساجد}، وبحديث حذيفة -رضي الله عنه- مرفوعا: (كل مسجد لـه مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح) [قط 2/427، وقال الألباني في صحيح الجامع موضوع]
القول الثالث: أنه لابد من مسجد جامع، وهو قول جماعة من التابعين واختيار الصنعاني، واستدلوا بما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" وقد سبق بيان أنه ليس من كلامها.
القول الرابع: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة، وبه قال سعيد بن المسيب، وعن عطاء: لا اعتكاف إلا في مسجد مكة والمدينة، واستدلوا بأن حذيفة رأى ابن مسعود وقال له: "عكوف بين دارك ودار أبي موسى وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا وأخطأت وأصابوا" [هق 4/316، سير أعلام النبلاء 15/81] وأجيب عن هذا بعدة وجوه:
الأول: أن الحديث لم يروه أحد من أصحاب الكتب المشهورة ولم يقل به أئمة المسلمين كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، بل كلهم متفقون على جواز الاعتكاف في كل مسجد.
الثاني: أول من أعل الحديث عبد الله بن مسعود، حيث أعله بأمرين: الأول: عدم الضبط، والثاني: عدم الفهم، فأعله رواية ودراية، ومن العلماء من قال إن الصواب في الحديث مع من وقفه، فإن الحديث ورد مرفوعا وورد موقوفا والوقف أرجح. [تهذيب الكمال 2/239، شرح علل الترمذي لابن رجب 1/542، زجر السفهاء عن تتبع رخص العلماء ص 81 وما بعدها، فقه الاعتكاف للمشيقح].
الثالث: أن القول بهذا يجعل الخطاب في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} موجها إلى أهل هذه المساجد، فيحصر عموم الآية كلها.
الرابع: أن الحديث في بعض روايته شك حيث قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال: مسجد جماعة).
ولا يصح تقدير الحديث: لا اعتكاف كاملا، لأن الكمال المنفي سيكون كمالا واجبا، فعاد الأمر إلى اشتراط المساجد الثلاثة، وأصح الأجوبة أن الحديث موقوف [انظر شرح المشيقح 4/421].
والراجح هو القول الأول، فلا يصح الاعتكاف إلا في مسجد جماعة. [فقه الاعتكاف للمشيقح]