الراجح من أقول العلماء أن الماء المستعمل في الطهارة، كالماء المتوضأ به والمتساقط من أعضاء الوضوء طهور، فيجوز الوضوء به والغسل، لأنه لا دليل على سلب الماء الطهورية.
وتفاصيل اختلاف العلماء فيما يأتي.
اختلف الفقهاء في معنى الماء المستعمل وحكمه على أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الحنفية: أن الماء المستعمل هو الماء الذي أزيل به حدث أو استعمل في البدن على وجه القربة، كالوضوء على الوضوء بنية التقرب أو لإسقاط فرض، والمذهب عند الحنفية: أن الماء يصير مستعملا بمجرد انفصاله عن البدن، وهو طاهر غير مطهر للحدث، لكنه مطهر للخبث، فتجوز إزالة النجاسة الحقيقية به.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية أن الماء المستعمل هو ما استعمل في رفع حدث أو في إزالة حكم خبث، والمستعمل عندهم في رفع الحدث هو ما تقاطر من الأعضاء أو اتصل بها أو انفصل عنها -وكان المنفصل يسيرا- أو غسل عضوه فيه، وحكمه عندهم أنه طاهر مطهر لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالات مندوبة مع وجود غيره إذا كان يسيرا، فإن لم يوجد غيره أو كان كثيرا لم يكره، ولا يكره على الأرجح استعماله مرة أخرى في إزالة النجاسة أو غسل إناء ونحوه.
القول الثالث: وهو مذهب الشافعية أن الماء المستعمل هو الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة عن حدث كالغسلة الأولى فيه، أو في إزالة نجس عن البدن أو الثوب، أما نفل الطهارة كالغسلة الثانية، والثالثة فالأصح في الجديد أنه طهور.
فالماء المستعمل ضربان: مستعمل في طهارة الحدث، ومستعمل في طهارة النجس، فأما المستعمل في طهارة الحدث فينظر فيه: فإن استعمل في رفع حدث فهو طاهر، لأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا، فكان طاهرا، وإلا كان طهورا كالغسلة الثانية كما سبق، وإن استعمل في طهارة نجس فينظر فيه: فإن انفصل من المحل وتغير فهو نجس، وإن كان غير متغير ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه طاهر، والثاني: أنه نجس، والثالث أنه إن انفصل والمحل طاهر فهو طاهر، وإن انفصل والمحل نجس، فهو نجس.
القول الرابع: وهو مذهب الحنابلة أن الماء المستعمل هو الماء القليل الذي استعمل في رفع حدث أو إزالة نجس ولم يتغير أحد أوصافه، وهو طاهر غير مطهر، فلا يرفع حدثا ولا يزيل نجسا، أما الماء المستعمل في طهارة مستحبة كتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة فيه والغسل للجمعة والعيدين وغيرهما ففيه روايتان، الأولى: أنه كالمستعمل في رفع الحدث فهو طاهر غير مطهر، والثانية: أنه طهور لكن يكره استعماله، وأما المستعمل في تعبد من غير حدث كغسل اليدين من نوم الليل، فإن قلنا ليس ذلك بواجب لم يؤثر استعماله في الماء، وإن قلنا بوجوبه فقال بعضهم: هو طاهر غير مطهر، وذكر أبو الخطاب فيه روايتين.
القول الخامس: أن الماء المستعمل نجس، وهو قول أبي يوسف، وقد نقل عن أبي حنيفة أيضا، واستدلوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) [م 283]
ووجه الاستدلال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الاغتسال في الماء الدائم، ولولا أن الاغتسال فيه ينجسه لما كان للنهي معنى، لأن إلقاء الطاهر على الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فهو حرام.
وهذا القول أضعف الأقوال لحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: (مرضت فعادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وهما ماشيان فأتاني وقد أغمي علي، فتوضأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصب علي وضوءه فأفقت) [خ 6723] ولا يمكن أن يصب النبي -صلى الله عليه وسلم- ماء نجسا على مسلم، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يقتتلون على وَضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- [خ 189]
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول، فقال: "قد علمنا يقينا أن أكثر توضؤ المسلمين واغتسالهم على عهده كان من الآنية الصغار وأنهم كانوا يغمسون أيديهم في الوضوء والغسل جميعا فمن جعل الماء مستعملا بذلك فقد ضيق ما وسعه الله، فإن قيل: فنحن نحترز من ذلك لأجل قول من ينجس الماء المستعمل، قيل: هذا أبعد عن السنة، فإن نجاسة الماء المستعمل نجاسة حسية كنجاسة الدم ونحوه -وإن كان إحدى الروايتين عن أبي حنيفة- فهو مخالف لقول سلف الأمة وأئمتها، مخالف للنصوص الصحيحة والأدلة الجلية وليست هذه المسألة من موارد الظنون بل هي قطعية بلا ريب .... فمن نجس الماء المستعمل كان بمنزلة من نجس شعور الآدميين بل بمنزلة من نجس البصاق كما يروى عن سلمان، وأيضا فبدن الجنب طاهر بالنص والإجماع والماء الطاهر إذا لاقى محلا طاهرا لم ينجس بالإجماع، وأما احتجاجهم بتسمية ذلك طهارة وأنها ضد النجاسة: فضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه لا يسلم أن كل طهارة فضدها النجاسة، فإن الطهارة تنقسم إلى: طهارة خبث وحدث طهارة عينية وحكمية.
الثاني: أنا نسلم ذلك ونقول: النجاسة أنواع كالطهارة، فيراد بالطهارة الطهارة من الكفر والفسوق كما يراد بالنجاسة ضد ذلك كقوله تعالى {إنما المشركون نجس}، وهذه النجاسة لا تفسد الماء بدليل أن سؤر اليهودي والنصراني طاهر وآنيتهم التي يصنعون فيها المائعات ويغمسون فيها أيديهم طاهرة، والثاني: يراد بالطهارة الطهارة من الحدث وضد هذه نجاسة الحدث، كما قال أحمد في بعض أجوبته لما سئل عن نحو ذلك: إنه أنجس الماء، فظن بعض أصحابه أنه أراد نجاسة الجنب فذكر ذلك رواية عنه، وإنما أراد أحمد نجاسة الحدث وأحمد رضي الله عنه لا يخالف سنة ظاهرة معلومة له قط، والسنة في ذلك أظهر من أن تخفى على أقل أتباعه ....
الثالث: يراد بالطهارة الطهارة من الأعيان الخبيثة التي هي نجسة، والكلام في هذه النجاسة بالقول بأن الماء المستعمل صار بمنزلة الأعيان الخبيثة كالدم والماء المنجَّس ونحو ذلك هو القول الذي دلت النصوص والإجماع القديم والقياس الجلي على بطلانه، وعلى هذا فجميع هذه المياه التي في الحياض والبرك التي في الحمامات والطرقات وعلى أبواب المساجد وفي المدارس وغير ذلك لا يكره التطهر بشيء منها وإن سقط فيها الماء المستعمل وليس للإنسان أن يتنزه عن أمر ثبتت فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرخصة لأجل شبهة وقعت لبعض العلماء رضي الله عنهم أجمعين." [مجموع الفتاوى 21/66]
القول السادس: أن الماء المستعمل على أي وجه طهور، فيجوز الوضوء به والغسل، وهو مذهب الظاهرية ورواية عن مالك، والقول الثاني للشافعي، ورواية عن أحمد، وهو مذهب الحسن البصري وعطاء والنخعي والزهري ومكحول، وهو الراجح، لأنه لا دليل على سلب الماء الطهورية على القول بالقسمة الثلاثية للماء، ولأن العضو إذا غسل مرة واحدة فإن الماء المتبقي على العضو يلاقي ماء الوضوء الذي يليه، وكذلك الغرفة إذا لاقت أول أجزاء العضو المراد غسله صارت مستعملة بالنسبة لما يلي ذلك الجزء، واحتجاج المخالف بأن الماء ما دام على العضو لا يعتبر مستعملا تحكم ليس عليه دليل.
أما استدلالهم بأن الماء المستعمل يصير طاهرا غير مطهر بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) [م 283]، فهو استدلال غير صحيح، لأن بدن الجنب طاهر، فإذا لاقى الماء بدنه لم تزل طهارته، وليس في الحديث دليل على ذلك، وإنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أن يغتسل الرجل في الماء الدائم وهو جنب، لأنه إذا اغتسل فيه، ثم جاء آخر واغتسل فيه فإنه يفسده على غيره فلا يمكن الانتفاع به، حيث يستقذره الناس بتوارد الاستعمال.