** إذا عدم الماء، فهل الأفضل أن يصلي في أول الوقت بالتيمم أم يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت إن كان يرجو الحصول على الماء؟ فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: أن تأخيرها إلى آخر الوقت أفضل إذا كان يغلب على ظنه أنه يجد الماء، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، واستدلوا بأن التأخير فيه تحصيل شرط من شروط الصلاة، بينما تقديم الصلاة مستحب، ومراعاة الشرط أولى.
القول الثاني: أنه يصليها أول الوقت إلا إذا تيقن وجود الماء آخر الوقت فالتأخير أفضل، وهو مذهب الشافعية، واختاره ابن تيمية، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتيمم بموضع يقال له "مِرْبَد النَعَم" -الموضع الذي تحبس فيه الإبل والأنعام للبيع-، وهو يرى بيوت المدينة) [قط 1/430، هق 1/224، والمحفوظ أنه موقوف على ابن عمر -رضي الله عنهما- من فعله كما قال البيهقي]
2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج فيهريق الماء فيتمسح بالتراب، فأقول يا رسول الله إن الماء منك قريب فيقول وما يدريني لعلي لا أبلغه) [حم 2609، وحسنه الأرنؤوط، وضعفه الدبيان]
والحديث من رواية ابن المبارك عن ابن لهيعة، وابن المبارك أحد العبادلة، وهم: عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن وهب، وقد اختلف العلماء في حال ابن لهيعة، فضعفه كثير من المتقدمين لتدليسه واختلاطه واحتراق كتبه، فضعفه ابن مهدي وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان، وصحح حديثه مطلقا آخرون كابن عدي وابن وهب، وقال بعض العلماء إن رواية العبادلة عنه صحيحة كعبد الغني بن سعيد الأزدي والساجي، وقال بعضهم إن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها، وهذا لا يقتضي صحتها، ولهذا قال الذهبي: "ولم يكن على سعة علمه بالمتقن، حدث عنه ابن المبارك وابن وهب وأبو عبد الرحمن المقرئ وطائفة قبل أن يكثر الوهم في حديثه وقبل احتراق كتبه، فحديث هؤلاء عنه أقوى، وبعضهم يصححه ولا يرتقي إلى هذا"، وقال ابن حبان: "قال أبو حاتم: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودا، وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرا، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفى، على أقوام رآهم هو ثقات، فألزق تلك الموضوعات به. أما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه" [المجروحين 2/12]
وقال ابن تيمية: "وقد يكون الرجل عندهم ضعيفا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به، فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضا حتى قد يحصل العلم بها ولو كان الناقلون فجارا فساقا، فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط. ومثل هذا عبد الله بن لهيعة فإنه من أكابر علماء المسلمين وكان قاضيا بمصر كثير الحديث، لكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به: مثل ابن لهيعة" [مجموع الفتاوى 18/24]
وقال أيضا: "تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيرا في علم أحوال الناقلين. وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيئ الحفظ وبالحديث المرسل ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره ومثل هذا بعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، فإنه كان من أكثر الناس حديثا ومن خيار الناس، لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط فصار يعتبر بذلك ويستشهد به وكثيرا ما يقترن هو والليث بن سعد والليث حجة ثبت إمام" [مجموع الفتاوى 13/348]
وقال ابن القيم: "حديث ابن لهيعة يحتج منه بما رواه عنه العبادلة كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقري" [أعلام الموقعين 2/294]
3- أن الصلاة أول الوقت من أفضل القربات، وفيه إبراء للذمة ومسارعة في الخير.
القول الثالث: أنه إذا غلب على ظنه عدم وجود الماء صلى أول الوقت، وإذا غلب على ظنه وجود الماء أخر الصلاة، وإذا لم يغلب على ظنه شيء صلى وسط الوقت، وهذا مذهب المالكية.
والأقرب هو القول الثاني، لعموم قوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا}.
[الغرر البهية 1/177، حاشية العدوي على الخرشي 1/194، المجموع 2/301، الإنصاف 1/300، الموسوعة الكويتية 14/269]